طرائف الجزَّار بين الموهبة والأشعار ، بقلم : د. نعيمة عبد الجواد
طرائف الظرفاء لطالما كانت جاذبة لما يتخللها من فكاهة تجلي الهموم عن الصدور. وبالنظر للشعب المصري، نجده يخالف التوقعات؛ فعندما يشتد به الألم يبدع في الضحك والطرائف والتندُّر حتى بما يثقل صدره من هموم، بل ويحيل أهوال الحياة إلى دعابة. وفيما يبدو أن محاولة الإلتفاف حول الهموم تفجِّر ينابيع من الموهبة الأدبية بين أبناء هذا الشعب.
وأمَّا الطرافة الأكثر إضحاكًا فهي تدفُّق الموهبة الأدبية على أشخاص يخالفون كل التوقُّعات؛ فدائمًا ما نسمع ونلمس أن الأديب مرهف الحسّ ورقيق المشاعر ويتدفق من خاطره شلالات من الإبداع. لكن أبناء ذاك الشعب الموهبة لا تقترن بالميول أو بالمظهر الخارجي أو حتى بالسيرة الذاتية؛ فجميع المواهب الشعبية ذات الآثار الباقية حتى يومنا هذا خرجت من ربوع أدنى طبقات الشعب المرتبطة بتراب الأرض والبعيدة عن طبقات العلماء والأدباء شديدي الثقافة؛ فالموهبة وليدة البيئة، وأعمالهم الأدبية خلاصة تجارب أبناء الشعب. فلقد أردك المصري منذ القدم أن أفضل وسيلة لإبعاد شبح الاكتئاب والبعد عن الأمراض النفسية هي البوح والكتابة والانخراط بالبشر؛ وتلك هي نفس قواعد الشفاء التي يوصي بها علماء النفس بدءًا من أبو الطب النفسي “سيجموند فرويد”، لكن المصري بفطرته توصَّل إلى هذا، وخرج منه الإبداع في صورة تنَدُّر أو أشعار، والتي غالبًا ما تصدر من أشخاص لا يمكن توقُّع أن الموهبة قد تصيبهم يومًا.
وأحد الأمثلة على هؤلاء الشاعر المصري الوَرِع “ابن عروس” الذي لا تزال أشعاره التي وضعت قواعد “فن الواو” ملئ السمع والأبصار وتتوارثها الأجيال وكأنها أقوال مأثورة، لم يكن سوى قاطع طريق اشتهر بالشدَّة وكان مخيفًا لجميع أبناء الصعيد المشهورين بالجلَد والشدَّة، فكان يهابهم أكثر الحكَّام بطشًا، ولا يسيطر عليهم غازي. لكن دون سابق إنذار، أصبح قاطع الطريق شاعرًا وواعظًا يجوب البلاد، والأغرب أن استمع له الجميع وبجَّلوه لأن الحكمة الدَّافقة من أشعاره أثرتهم، وكذلك تركه لحياة الشقاوة وارتداءه الأسمال أجبرت الجميع على الصفح عنه.
و”ابن عروس” ليس بالموهبة الفريدة بين أبناء القوة والشراسة، فسيرة الشاعر “جمال الدين أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم الجزَّار المصري” (1205-1281م) المشهور باسم “أبو الحسين ابن الجزار” هي الأكثر طرافة لما يسودها من قمم وقيعان. فلقب “الجزَّار” (بمعنى “القصَّاب” باللهجة العامية المصرية) الملصق باسمه هو اسم ومهنة؛ فالشاعر رقيق المشاعر قد خرج من بين اللحم والعظم لينسج شعرًا حكيمًا يلامس القلوب. ولو كان الشاعر العبَّاسي “ابن الرومي” (836-896م) كان أوَّل من رسم الكاركاتير بقصائده، فإن “أبا الحسين بن الجزَّار” أوَّل من أرَّخ لعصره شعرًا، وحتى يسهل على أبناء الشعب فهمه، آثر الشعر السَّاخر الذي استخدم المفردات السائدة في عصره، وامتازت أشعاره بالصدق الفنِّي والغوص في المعاني، على عكس شعراء عصره المتكالبين على التصنُّع في الألفاظ فظهرت أشعارهم متهالكة ولم يقدَّر لها أن تذكر في صفحات التاريخ. أمَّا “أبو الحسين ابن الجزَّار” كان بديع النظم، فصيح الألفاظ، عذب التراكيب، جاذب النوادر، إلى جانب وضع مسحة لافتة من المجون واللَّطافة.
ولقد ولد “أبو الحسين ابن الجزَّار” في القرن السَّابع الهجري في مدينة الفسطاط وشهد صغيرًا العصر الأيوبي وعاصر شابًا الحقبة المملوكية. وكان أوَّل من اكتشف موهبته والده، الذي شهده صغيرًا ينظم القليل من الأبيات، فتوجَّه به إلى الشَّاعر “ابن أبي الأصبع” وكان شهيرًا في عصره. فألقى الصبي عليه الأبيات، فعلَّق الشَّاعر: “أحسنت، والله إنك عوَّام مليح”. وقصد بذلك أنه يخرج من بحر للآخر بسهولة. ومنذ ذلك الحين تعلَّق قلبه بالآداب، ونشد التقرُّب من أرباب السلطة لكي يجزلوا له العطاء وينقلوه من طبقة أبناء الحرف لطبقة الأدباء. فامتلك زمام المعارضات الشعرية، والتناص ما بين إمرؤ القيس والمتنبي. ومن أقواله معارضًا للمتنبي:
فاللحم والعظم والسكين تعرفني… والخلع والقطع والساطور والوضم
ولآماله الكبرى نبذ مهنة عائلته، وامتهن الشعر. لكن في عصر المماليك ساءت أحوال الأدباء وندرت العطايا السخيَّة لهم وللشعراء لتفضيل العلماء وحركة التعليم، وإيمان المماليك أن أهل العلم يجب أن يصيروا الأقرب لذوي السُّلطة. فحاول “ابن الجزَّار” مدحهم ووقف على بابهم، لكن لم يصب شيئًا إلَّا الفقر والجوع. فعاد للجزارة مرة أخرى، وقال ساخرًا:
كيف لا أشكر الجزارة ماع … شت حفاظاً وأرفض الآدابا
وبها صارت الكلاب ترجيـ … ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا
وبذلك يذم أهل اليسر الذين ضنُّوا عليه بعطاياهم فنعتهم بالكلاب، لكنه يفتخر أن الكلاب حاليًا ترجوا عطاياه بعد أن رجع لمهنة الجزارة. بل، وعلم قيمة حرفة أهله الجزَّارين، فافتخر بهم بأبيات تجمع بين الجد والهزل والدعابة، قائلاً:
ألا قل للذي يسأل… عن قومي وعن أهلي
قد تسأل عن قوم… كرام الفرع والأصل
يُرجِّيهم بنو كلب… ويخشاهم بنو عجل
ومع أنه عاد لمهنة الجزارة، لكنه لم ينبذ الشعر، بل كان يتذكَّر أيام الصعلقة بأشعار أقرب للروح الشعبية لما يتخللها من فكاهة ومرارة، كما في قوله:
سقى الله أكناف الكنافة بالقطر… وجاد عليها سُكَّرٌ دائم الدَّرِّ
وتباً لأوقات المخلل إنها… تمر بلا نفعٍ وتحسب من عمري
الموهبة ليست حكرًا على طائفة، فكل من امتلك زمامها عليه أن يفيض بها، والبقاء دائمًا للأصلح. أمَّا الظرفاء الموهوبين، فمكانتهم في التاريخ بارزة؛ لأنهم من يستبدلون الهموم بابتسامة.