ثقافة الخوف و الإبداع ، بقلم : د. فواز عقل
إن رحلة الإبداع و نجاح الفكرة تحتاج إلى الكثير من الجهد و الوقت و الانعتاق و الانغلاق الذهني، نحن نعيش في عصر لا حدود للمعرفة، عصر خضخضة الأفكار، عصر اللانهايات ، الذي يقوم على المغامرة و المخاطرة و المبادرة و المحاولة و التجديد و التعلم، عصر تحولت غرفة الصف من مركز تفريخ إبداع إلى مركز تفريغ إبداع، عصر اللامجهول، عصر فيه كثير من الأمور المرعبة ، عصر الخوف من فقدان البوصلة، عصر لا يعرف الخوف، و لذلك أرى أن على التربية أن تطرح طرحا جديدا ألا و هو المغامرة و المبادرة و التحدي و الإبداع و التساؤل، فالإنسان لا يولد مبدعا أو مبادرا بل يصير كذلك بفعل التربية ولا يمكن توليد الإبداع في مجتمع خائف من الجديد من التغيير من غير المألوف من الامتحان من المناقشة من الاعتراف بالخطأ، الخوف الداخلي من الفشل.
و كلما تقدم الإنسان في العمر يصبح أكثر خوفا، لا جغرافيا مع الخوف، عندما يصاب به الإنسان يسافر معه إلى أي مكان ، إن الطفل المبدع الخلاق المفكر هو ثروة كبيرة يجب استغلالها، فتطوير قدراته الفكرية و حثه على البحث والتعلم الذاتي والثقة بالنفس و مكافأته هو حافز من أجل التطوير الذاتي، و قال أحد التربويين: لا أستطيع أن أعلم الناس التفكير و لكن أستطيع أن أجعلهم يفكرون، و يقول إيليا أبو ماضي عن الطفل:
قل لمن يبصر الصغير صغيرا إن خلف الصغير فجرا نقيا
إنه غرسة ستطلع يوما ثمرا طيبا و زهرا جنيا
ربما كان أودع الله فيه فيلسوفا أو شاعرا أو نبيا
قيل في الخوف : الي ما بخاف ما بخوف/ الملدوغ يخاف من جر الحبل/ فلان يخاف من ظله/ رأس الحكمة مخافة الله.
فكيف يبدع من يخاف الغرب خوفا من تغريبة بني هلال/ يخاف الشرق خوفا من تشويقة بني مازن/ يخاف من التاريخ بسبب المناذرة و الغساسنة و البكريين و بني تميم و البرامكة و أيام العرب و البطولات و الانتصارات/ يخاف من الجغرافيا بسبب الحدود و جواز السفر و الحواجز و وحشة الطريق والسفر بلا رجعة / يخاف من الكيمياء بسبب المعادلات/ يخاف من الفيزياء بسبب القوانين / يخاف من الرياضيات بسبب المسائل و البراهين و الجمع والقسمة/ يخاف من علم الاجتماع بسبب القبائل و الأنساب و الأحزاب /يخاف من النفاق في الشعر كما قال الشاعر عبد اللطيف عقل : إن الشعر لما يقاتل يزهو…. ولما يداهن يكبو… و لما ينافق أقسى من الطعن في الخاصرة، و لأن الشعراء يقولون ما لا يفعلون/ يخاف من القواعد بسبب الفاعل و المفعول به و المنصوب و المكسور و المجرور و المبني للمجهول /يخاف من الضمائر المستتر و المتصل و ضمير الغائب / يخاف المحاسبة خوفا من يوم الحساب/ يخاف من الإقناع لكثرة البراهين و الحجج/ يخاف من الحوار حتى لا يعبر عن رأيه/ يخاف من السؤال بسبب كثرة الأجوبة / يخاف من القراءة ليبقى جاهلا، و قال شوقي:
إني نظرت إلى الشعور فلم أجد كالجهل داءا للشعوب مبيدا
يخاف من المطر و المنخفضات الجوية فتهلك السيول و يهلك الحرث و النسل / يخاف الراديو بسبب نشرات الأخبار/ يخاف التلفزيون بسبب المسلسلات و الإعلانات و المصارعة/ يخاف من وسائل التواصل الاجتماعي بسبب كثرة الأخبار المضللة و الإشاعات والأخبار الملفقة/ يخاف الصدق و النظافة و المحبة أن تصبح سلوكا / يخاف من المعلم لأنه معلم/ يخاف من المدير بسبب الإدارة/ يخاف من الشرطي لأنه شرطي/ يخاف من البدو بسبب البدوقراطية/ يخاف من الديموقراطية بسبب الانتخابات/يخاف من الفرح و السرور لأنه غير معتاد عليها/ يخاف من الشهادات بدون أخلاق ومهارات / يخاف أن تحدد صلاحية الشهادة مثل الدواء و المعلبات/ يخاف من الحرباء بسبب سرعة تغيير لونها/ يخاف من المشاركة و التفاعل حتى ينكشف جهله/يخاف من الطلعة لأنها بعدها نزلة/ يخاف من الثقافة بسبب كثرة المثقفين.
و هنالك أسئلة تثقل كاهلي و كاهل الآخرين و أقول: كيف يبدع من بلغ الخمسين من العمر و يرى الأمور كما كان يراها في الثلاثين من عمره ؟/ كيف يبدع من يعمل الأشياء نفسها بنفس الطريقة ينتظر نتائج مختلفة / من لا يتعلم شيئا جديدا كل يوم /من لا يملك مهارات العصر /من يغير رأيه ليرضي الآخرين /من يرى في التغيير خطر على موقعه/ من يرى حب الاستطلاع وقاحة /من يستمع لوجهة نظر واحدة/ من لا يحاور الآخرين/ من لا يتعلم من تجارب الآخرين/من يقول أن من إيدك هاي إلى إيدك هاي/ من يحاول أخذ اللقمة من أفواه الآخرين/ من لا يحترم مواهب الآخرين/ من يقول: الجاهل عدو و نفسه و يتخذه صديقا/ إن الإبداع لا يولد عن الخائفين و يبقى الأمل أقوى من الخوف فلا بد من تربية الطفل على الأمل و التحدي و المبادرة و اتخاذ القرار لتجاوز الخوف لأن ثمن عدم المخاطرة أكبر بكثير من المخاطرة نفسها.
إن خوف الإنسان من الفشل هو خوف طبيعي، و لكن هل الخوف من عدم النجاح شعور طبيعي ؟ لكن الخوف المقلق هو سيطرة على عقل و أفكار و مشاعر الخائف و هذا سيتحول إلى تصرفات و سلوكيات و الخوف من المخفي و القادم و لكن تخيل لو أن الإنسان لديه معرفة بالقادم، أو ما سيحدث معه في المستقبل المخفي و المكتوب، هل يستطيع أن يتعلم؟ هل سيحاول؟ هل يمكنه العيش بشكل طبيعي؟ لماذا يخاف الإنسان؟
هل يخاف من عدم النجاح و الفشل و الإحباط و لكن في اللحظة التي يخاف فيها من الفشل لن يحقق النجاح أبدا، يجب أن يحرر الإنسان نفسه عن طريق تحديد مصدر الخوف ، هل هو خوف من المجهول أو الفشل أو شيء آخر و التركيز على الجوانب الإيجابية و عدم تجاهل الخوف بل يعترف بوجوده و يتفاعل معه، لذلك عندما تواجه الإنسان مشاكل و صعوبات يجب أن يعتبرها سلما للصعود إلى النجاح حيث سيتعلم في المرات القادمة كيفية التعامل مع هذه الأحداث التي يمكن أن تتكرر بطرق مختلفة.
و لذلك أقول للمعلمين، كونوا كالمغناطيس ، يجب عقول الطلاب و قلوبهم، و إياكم أن تطفؤوا مشاعل العقول، فالأطفال يأتون إلى المدرسة وهم يتوقدون ذكاء و كلهم حيوية و نشاط و لديهم استعداد كبير للإبداع و التميز و المبادرة ، و لكنهم مع الأسف يقعون في أيدي معلمين يرون حب الاستطلاع و كثرة الأسئلة و النشاط الزائد وقاحة فيحولوه إلى فحمة سوداء، لا ترسل ضوءا ولا تشع حرارة بدل قدح شرارة الإبداع و غرس شجرة الإبداع و لكن مهما كثرت المخاوف و تقلبت الظروف يبقى الأمل أقوى من الخوف فلنقدح شرارة الإبداع ، و لنفتح نوافذ جدية أمام الأطفال و لنطلق العنان لقدرام الطلاب حتى يتجاوزوا الخوف و ينطلقوا كالسهم إلى المستقبل دون خوف ولا تردد .
وأقول إن الإبداع لا تفجره تربية تقليدية تلقيمية تلقينية ، فالإبداع ليس احتفالا تقيمه جمعية أو مؤسسة لتوزيع جوائز و ليس الحصول على علامة مرتفعة في الامتحان وليس كالسخونة التي يتحدث عنها الإنسان و يأخذ دواء و يتجاهلها حتى يصاب بها مرة أخرى، فالإبداع عملية لا تحدث عفوا بل بحاجة إلى رعاية و تدريب منذ الصغر لإنتاج عقل مبدع يخرج عن المألوف،
رحم الله الشاعر الذي يقول :
أبارك للناس أهل الطموح ومن يستلذ ركوب الخطر
وألعن من لا يماشي الزمان ويقنع بالعيش عيش الحجر
و ما قاله شاعر آخر :
شباب قنع لا خير فيهم وبورك بالشباب الطامحين
و ما قاله أبو العلاء المعري :
وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل
و أقول نحن التربويون ، المحاورون أصحاب البوصلة أصحاب اليقظة نصنع البوصلة لليوم التالي ولا ننتظرها.
د. فواز عقل – باحث في شؤون التعليم و التعلم – فلسطين