(قَـصْف الْجَبَهـات) فَن الرّد السائد ، بقلم : أ. مروه معتز زمر
يَلْعَب طِفْلايَ الصَّغيران، أمام عيني، لأتفاجأ بهما يُرَدّدان كلمات غير مألوفة لم نَعْتَدها، قال الأكبر: (كيف وأنا أقصف جبهتك)، ليرد عليه أخوه الأصغر: (سأطير جبهتك)!!
قد يبدو موقفاً لطيفاً لاسيّما إنه لم يتم توظيف مفاهيمه وإنما ترديدها فقط، لكنني لم أستطع التّغاضي عن شعور الخوف الذي تسَلّلَ إلى قلبي، كيف يمكن لهذه العبارات القاسية أن تصبح جزءاً من مفردات طفلين صغيرين؟
كيف يمكن لِما حقيقته لُعبة بريئة أن يتحول إلى رمزٍ مؤلم لتأثير الثَّـقافة السائدة على براءَة طفولتهما؟ شعرت بالاستياء، وكأنني أشاهد هذه البراءة تتلاشى.
هذه اللّحظة جعلتني أتوقف وأفكر: من أين جاءت هذه المصطلحات الدَّخيلة على حياتنا؟ ماذا يعني قَـصف الجبهات وتطييرها؟ منذ متى أصبح التعبير عن آراءنا بعفوية و مواقف حياتنا الطبيعية ساحَة معركة؟ هل هذا ما ورثتنا إياه فضاءات السوشال ميديا؟
ما أزعجني حقًا هو أنني لطالما سمعت هذه المصطلحات تتردَّد على مسامعي في حوارات الناس في الْمدرسة والشّارع وأماكن العمل والتّرفيه، فكلما أبدى شخصاً رأيه أو عبَّـر عن كينونته، انهالَ عليهِ الآخرون بالردود الحادّة والساخرة التي تؤدي إلى إحراجه وإسكاته، ولكنني لم أُلْقِ لها بالاً إلا عندما مررت بهذه اللحظة العائلية التي مسّتني شخصياً، هل هذا هو المستقبل الذي نريده لأنفُـسنا و لأطفالنا؟ عالم مليء بالعُـنف والحقد، كم هو محزن أن نرى تلك العبارات، تتغلغل في عقولهم و قلوبهم، مشوِّهَة بذلك روح الطفولة النقيَّة.
نحن نعيش في عَصْر تتشكل فيه ثقافتنا من خلال ما نراه عَبرَ وسائل التواصل الاجتماعي، والتي غالباً ما تُرَوِّج لمصطلحات وسلوكيات تتصف بالعدوانية والتهكُّم، فعندما نسمع مصطلحات مثل (قصف الجبهة) و(تطيير الجبهة) في حياتنا اليومية، نبدأ في تقبلها كجزء من لغتنا وتعاملاتنا، هذه المصطلحات، التي بدأت كجزء من نكات أو ردود فعل على السوشال ميديا، أصبحت شيئاً فشيئاً نمطاً حياتيّاً يُهدِّد التفاهم والتواصل السَّليم بين الناس وتعمل على تعزيز ثقافة الاستهزاء والسخرية على حساب الحِوار البنّاء.
إن تدهور الحِوار على وسائل التواصل الاجتماعي وفي نقاشاتنا وتفاعلاتنا اليومية ليس مجرد مسألة سطحية؛ بل له تأثيرات عميقة على الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية، فالإساءة المتكررة يمكن أن تُعمّق الشعور بالانقسامات وتزيد من التوتر والعداوة بين الأفراد والجماعات، كما يمكن أن تؤدي هذه الظاهرة إلى أضرار نفسية خطيرة مثل الاكتئاب والقلق، والعُزلة، وتعزيز أعراض اضطراب الشخصية التجنبية، خصوصاً لدى من يتعرضون للهجمات الشخصية المتكررة.
وللأسف امتدّ أثر هذه الظاهرة على العلاقات الاجتماعية بين الناس من سوء الظَّن، ورد الإساءة بمثلها، فأصبحت تسود لغة العُـنف والكراهية، والشتم، والإهانة، وتقزيم الآخر، إلى أن أصبحت الإساءة جزءاً من حياتنا اليومية، وهذا ما لانريده لأنفسنا ولأطفالنا..
كتب تعليم قصف الْجَبهات بديلاً لحُسن الظن بالآخرين
أثناء متابعتي لأحد الصفحات الإلكترونية تفاجئت بأن هناك من أصدر كُـتباً تتحدث عن تعليم فنون قصف الجبهات وكيفية الرَّد بصيغة أقوى!!
إلى أين وصلنا؟ وفيما لو تعرّضنا للإساءة هل نَـغفل عن كلامه عزَّ وجَل (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، ونَتبّع الظَّن؟!!
نحن نريد حياة سويّة، نرتقي بها لِنَصِل لأفضل نُسخة من أنفسنا، وتجاربنا اليومية تعلِّمنا أنَّ حُسن الظَّن بالآخرين هو مفتاح للعلاقات الإنسانية السليمة، قَالَ الله تَعَالَى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ)..
فلماذا نبحث في ما وراء الأحرف والكلمات ولماذا نحاول تأويل الحديث بشكل مُسيء، وثم نبحث كيف نرده بشكل أسوء وأكثر إيذاءً؟
عندما نختار أن نرى الخير في الآخرين، نعيش بسلام داخلي ونقوّي علاقاتنا، حُسن الظن لا يعني التغاضي عن الأخطاء، ولا يعني أبداً إلى قُبول الإهانة بل هو دَفْـع بالّتي هي أحْسَن وهو الإيمان بقدرة الناس على التغيير ومنحهم فرصة لتصحيح مسارهم.
قال تعالى:
وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَٰنًا عَلَىٰ سُرُرٍۢ مُّتَقَٰبِلِينَ (الحجر-47)
الثقة بالنفس كطريق للتّسامح
كن شديد التسامح مع من خالفك الرأي فإن لم يكن رأيه كل الصّواب فلا تكن أنت كل الخطأ بتشبثك برأيك
(فولتير)
لماذا لا نتقبل الاختلاف؟، إن قبولنا لوجهة نظر الآخر لايعني تبنيها في حياتنا الشخصية..
نحن نحتاج إلى التفكير: لماذا نرد بقسوة؟ هل هو ضعف داخلي أم شعور بالتهديد؟ الثقة بالنفس تمنحنا القدرة على التصالح مع الذّات وفتح أبواب التسامح، عندما نَثِق في أنفسنا، نتمَكَّن من التّعامُل مع الأخطاء بموضوعية ونكون أكثر قُـدرة على تقديم العذر للآخرين، الثِّـقة بالنفس تجعلنا أقل تأثراً بالانتقادات وأكثر قدرة على مسامحة الآخرين.
(وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّـهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)
هل نسينا أن للإنسان قلباً يحِن إلى الود ونَفْساً تتوق إلى السّلام، لقد ابتعدنا عن ديننا الحنيف الذي أمرنا بالصّبر والتّحلي بالأخلاق الفاضلة، وعن إنسانيتنا التي تدعونا إلى التسامح والرّحمة، فهل يمكننا أن نعيد إحياء هذه القِــيَـم ونحوِّل ساحة المعارِك اللفظيَّة إلى حِوارات بنّاءَة؟؟