ترابط الوجود ،! بقلم : د. أفنان نظير دروزه
كل الحقائق المنظورة وغير المنظورة تثبت بأن الوجود كائن مخلوق متكامل ومترابط ومنسجم ومتناغم في جميع مكونات وأجزائه، سواء في الحجم، أو الحركة، أو الدوران، أو السرعة، أو التبدل، أو التغير، أو الوظيفة.
وبالتالي، فإن أي خلل في حركته ودورانه ووظيفته سيؤثر على حركة الكائن الآخر ودورانه ووظيفته. والشواهد على ذلك كثيرة، فمثلاً انظر إلى الشمس في حركتها تراها تؤثر وتتأثر بحركة الأرض والقمر وغيرهما من سائر الأفلاك والنجوم. وانظر إلى القمر، تراه مترابطاً مع الشمس والأرض والنجوم الأخرى وسائر المجرات، وترى الكل يجذب بعضه بعضاً بموجات كهرومغناطيسية، وذلك حتى تستمر حركته ودورانه ووظيفته التي قدرها الله له.
وإن أخذت كل فلك على حدة، فتراه مترابطاً في أجزائه ومكوناته ووظائفه أيضاً، وذلك حتى يتمكن من القيام بوظيفته التي تؤثر بدورها على وظيفة الأفلاك الأخرى من والكواكب والنجوم. وقس على ذلك الكائنات الحية من نبات وحيوان وإنسان، فترى الكل مترابطاً مع نفسه أولاً، ومع غيره ثانياً. ولعل الهدف من هذا الترابط هو استمرار الوجود للقيام بالوظيفة التي قدرها له الله ومساعدة الكائن الآخر، في الوقت نفسه، على أن يقوم بوظيفته بترابط وتأثير متبادل ضمن قوانين فيزيائية كونية معينة. ولعل الوظيفة الكلية للكون هي خدمة الإنسان وسعادته لقوله تعالى، وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعاً منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون…، وقوله تعالى، ألم نجعل الأرض مهادا، والجبال أوتادا، وخلقناكم أزواجا، وجعلنا نومكم سباتا، وجعلنا الليل لباسا، وجعلنا النهار معاشا، وبنينا فوقكم سبعا شدادا، وجعلنا سراجا وهّاجا، وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا، لنخرج به حبا ونباتا، وجنات ألفافا…إلخ، صدق الله العظيم.
والإنسان مثله مثل سائر المجرات، تراه مترابطاً في أجهزته، منسجماً في تكوينه، ومتكاملاً في وظيفته وحركته وسرعته. فالجهاز العصبي مثلاً يتأثر بالجهاز الهضمي، والجهاز العضلي يتأثر بالجهاز الهضمي، والهضمي بالدموي، والدموي بالرئوي، والبصري بالسمعي… إلخ من الترابطات المتبادلة بين أجهزة الجسم الواحد، وهذا ما يظهر، على سبيل المثال، في وظيفة كريات الدم البيضاء، فتراها مرتبطة بوظيفة كريات الدم الحمراء؛ ووظيفة الرئة مرتبطة بوظيفة الجهاز العضلي، والعضلي مرتبط بالهضمي؛ والعصبي مرتبط بالحواس الخمس…إلخ من الترابطات التي تجعل أي خلل في وظيفة إحداها سيؤثر على الوظيفة الأخرى والتي جميعها ستؤثر على وظيفة الجسم ككل واستمرار حياته، لقول رسولنا الكريم، مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
فالشاهد هنا أن كل عضو في الجسم له وظيفته الخاصة به، وأن هذه الوظيفة مرتبطة بوظيفة العضو الآخر وفق نظام إلهي دقيق متقن؛ وذلك ليساعد الكل على القيام بوظيفته كما قدّر الله له، لقوله تعالى، “كل شيء خلقناه بقدر”. وكذلك الحال في سائر الأفلاك والمجرات، فهي منسجمة مع بعضها البعض، ومترابطة في وظيفتها مع غيرها ليستمر الوجود.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل الترابط بين أجزاء الكون وتناغمه وانسجامه يدل على ترابطه أيضاً بالإحساس والشعور والروح والعقل، فيفرح لفرح بعضها البعض، ويغضب لغضبها، سيما وأن هناك الكثير من الآيات القرآنية التي تدلل على أن الجمادات تشعر وتحس وتفقه وتدرك، لقوله تعالى، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان… وقوله تعالى، ويسبح الرعد بحمده…، وكذلك ما جاء في الحديث الشريف، فلما غابت الشمس قال يا أبا ذر هل تدري أين تذهب…فقال، تستأذن في السجود، فيؤذن لها. وكذلك، فإن هناك ما يدلل على أن القلب يفقه، والعين تبصر، والأذن تسمع وتعي، لقوله تعالى، ولهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل… وقوله، لتعيها أذن واعية …، وقوله، اليوم نختم على أفواههم، وتكلمنا أيديهم، وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون…، فهذه الأمثلة وغيرها تدلل على أن الجمادات والكائنات الحية وكل ما في الكون يحس ويشعر ويدرك ولكن بطريقة تختلف عن الطريقة التي يدرك بها الإنسان ويشعر لقوله تعالى، لا تفقهون تسبيحهم.
والسؤال الذي يطرح هنا، هل الأرض وسائر الأفلاك والكواكب والنجوم السماوية تشعر وتحس وتدرك بما يجري حولها من أحداث مؤلمة أو مفرحة، وبالتالي فهل تغضب الأرض للحروب التي تقع بين البشر وتحزن وتبكي وتغضب، فيؤثر ذلك سلباً على عطائها من زرع وضرع ونبات، وعلى سمائها من مطر وجفاف وقحط، فتقل البركة في كل شيء، سواء في الرزق، أو الوقت، أو العمر، أو هداة البال… إلخ، لقوله تعالى، فما بكت عليهم السماء والأرض…؟، وهل تفرح الأرض أيضا لفرح إنسانها فتصبح نضرة بشمسها، ومنيرة بقمرها، ومشعشة بنباتاتها، ومغردة بطيورها، وأنيسة بحيواناتها، غزيرة بأمطارها سيما وأن الإنسان مكون من عناصرها، ومخلوق من طينها وترابها؟
وبناء على هذه الأمثلة، فهل يمكن القول أن الكون بجميع أفلاكه ومجراته وأرضه ونجمه يحسّ ويشعر مع بعضه البعض ما دام هناك ترابط بين أجزائه ومكوناته، وانسجام في سرعته ووظيفته، وتناغم في حركته وسكناته، وأن أي خلل في وظيفته سيؤدي إلى غضب الله فاطر السموات والأرض وخاصة وهو يرى ما يحدث على الأرض من حروب طاحنة، وسفك دماء، وما يقوم به الإنسان من قتل ودمار وظلم وقهر، وما يعانيه من فقر ومرض وجهل، تخالف لسننه وقوانينه وشرائعه ورسالاته السماوية خلقه من أجلها وأمره باتباعها، والتي ما أرسلها إلا لسعادته واستمرار حياته والقيام بوظيفته التي خلقه الله لها، ألا وهي عبادته لقوله تعالى، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، وبالتالي، فإن ابتعاد الإنسان عن ربه وعدم اتباع أوامره والتي على رأسها خلافة الأرض وإعمارها، ونشر العدل والسلام فيها، ونشر المسرة في قلوب الناس، ومقاومة الجهل والمرض والفقر والظلم سيؤدي إلى غضب الله، ومن ثم قيام الساعة وإنهاء العالم، لقوله تعالى، إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الإنسان مالها، يومئذ تحدث أخبارها، بأن ربك أوحى لها…؟
إن ما يجري في العالم اليوم يجعل المرء يتساءل، هل هذه من علامات الساعة وتنبئ بيوم القيامة، خاصة وهو يرى بأم عينه ما يجري حوله من سفك دماء وقتل ودمار وخراب دون شفقة أو رحمة أو وازع ضمير، والتي تعد انتهاكاً صارخاً لما أمر الله به، وما خلق الإنسان من أجله؟ سؤال يظل قائما ولا ندري متى يجاب عنه!