11:54 مساءً / 23 سبتمبر، 2024
آخر الاخبار

قراءة نقدية للكاتبة غدير حميدان الزبون لقصة الـرأسُ على الـرأسِ للقاصّة السوريّة روعة سنبل من مجموعتها القصصيّة دو، يَك

قراءة نقدية للكاتبة غدير حميدان الزبون لقصة الـرأسُ على الـرأسِ للقاصّة السوريّة روعة سنبل من مجموعتها القصصيّة دو، يَك

قراءة نقدية للكاتبة الفلسطينيّة غدير حميدان الزبون لقصة الرأسُ على الرأسِ للقاصّة السوريّة روعة سنبل من مجموعتها القصصيّة دو، يَك


مساءٌ كبيرٌ بحجم السماء لهذا المساء الجميل، مساءٌ كبيرٌ يأتي بالخير الوفير لكلِ حُلْمٍ طالَ قدومُه، ولكلّ أمنيةٍ لا زالت معلّقةً في طرفِ السماء، ولكلِ دعوةٍ تنتظرُ من الله الاستجابة، فربُّ الخير ِلا يأتي إلّا بالخير، طابَ مساؤكم يا أهلَ الخير.
لا زال السّاردون يغرّدون، ولا زال المغني يغنّي، ولو رحلَ صوتي ستبقى حناجرُكم تصدَحُ بالحبِ وبالغناء والسّرد.
أيَها السادةُ الأسيادُ، يا أربابَ الأقلامِ وأسيادَ الحروف، هل أتاكم حديثُ الغربة والاغتراب؟!


أنا أخبركم بذلك: في عالمٍ ليس لنا، في عالمٍ ضَيّقٍ يسلبُ المرءَ نومَه، في عالمٍ لا نافذة فيه سوى هذا الصّدرِ الذي يتنفسُ رائحةَ البيتِ كما تتنفسُ السمكة، في عالمٍ اختلطت فيه الأشياءُ بفوضويَة وعشوائيّة، في عالمٍ تداخلت فيه الأدوار واختلطت فيه الرؤوسُ بالأذناب، في عالم سقطت فيه الأقنعة لا نملك إلا الصراخ َوالعويل، نصرخ ُفيتردّد الصدى ولا مجيب، وا وجعاه، “الراس ع الراس يا ستّي، شايفة كيف؟ الراس ع الراس” بهذه العبارة التي اختزلت وجع الغربة والاغتراب تعافت بطلة القصة من ندوب الحرب وتشوّهاتها، تالله لقد أبكيتنا بهذه القفلة الرائعة يا روعة.


“دُو، يَك..” هذه المجموعة القصصيّة التي شقّت فيها روعة سنبل دربًا آخر لرسم الحروف لتستند الأبجديات على رأس بعضها بعضَا في لعبة حظٍ مرهونة بعديد الخسارات والخذلان في فضاء قصصي يأخذ مسمى الذاكرة؛ لتكونَ قصةُ “الرأس على الرأس” خيطا نفسيا لذاكرة مهشّمة تشتكي الغربةَ والاغترابَ واختلاط الحابل بالنابل بفعل الحرب الضروس حامية الوطيس التي امتدّت لسنوات عجاف ونالت من كل شيء وجعلته كالرميم، فهي لا تُبقي ولا تذر والصراع والنفوذ يستعر.
ويحضرني عن قلّة الحظّ قول البطلة: ” أبتسم حين أفكّر في جدّتي، أعرف أنّها لو كانت معي في مطبخي، لصفعت خدّها، وندبت حظّها، ولصار لديها سبب إضافيٌ لتلعن هذا الزمانَ، زمانَنا الذي اختلطت فيه الرؤوس بالأذناب”.


وعن أبطال القصة فأرى روعة الرائعة القاصّة الصاعدة تتّخذ من أفراد العائلة أبطالاً لها، ومن المنزل الدمشقي فضاء مكانيّا لمجريات أحداثها، وتحديداً المطبخ الذي يظهر بمفرداته بشكلٍ واضح يعكس تفاصيل الحياة السوريّة. ليس ذلك بالأمر الغريب على القاصّة ما دامت ياسمينة الشام وابنتها البارّة المحبّة لقوانين العادات الأصيلة المتوارثة فذاكرتها تنبض بها ولو أفلتتها يداها عُنوة بفعل الغربة والاغتراب.


أمّا “الغربة والاغتراب” فهما كلمتان لا يقوى الانسان أن ينطقَهما دون غَصَة قي القلب وتعثّر في اللسان، لأنهما ينبعان من ألم المعاناة وحرقة الفراق، سواء كان السبب لهما سلبيا أم إيجابيا حيث إنهما لا يتحققان إلاّ بالانفصال الذي يترك جرحا كبيراً في النفس والروح، تصعب معالجته بكل الأدوية التي صنعها الانسان إنّه انفصال الجنين عن الحبل السُري الذي يتعهّده بالهواء والغذاء والنّماء.


 في الحقيقة إنّ هذين المفهومين وإن وصلا إلى النتيجة ذاتها، فإنهما ينتجان عن سببين مختلفين، مما يجعل الاغترابَ عِلّةً، والغربةَ احتراقا، والفقدَ موجعا مؤلما يأتي بما لا يشتهي قلبُ المحبّ، فهو شَقٌ في القلب يوغل في العمق، لا يلائمه البوحُ الطويل ولا الكتمان، لا يُخدِر ألمَه إلا لحظةٌ حميميةٌ لا تكونُ إلّا بوضع الخدّ على الخدّ والرأس على الرأس في إشارة إلى أمل مجنِح يحلّق في سماء الوطن السليب الجريح لرصّ الصفوف وتوحيد الكلمة، فتقول البطلة: ” أرحتُ كفي المرتجفة فوق صدرِها الساكن، قبّلتُ وجهها البارد، ثمّ وضعتُ رأسي على رأسها، الجبهة مستندة إلى الجبهة، والخدّ ملاصق إلى الخدّ، همستُ وأنا أبكي: الراس ع الراس يا ستّي، شايفة كيف؟ الراس ع الراس”.


والسؤال الذي ينزلق من منحدرات السهول والمطلّ من تلك الذُرى، والذي تتبعه دموع الأنبياء لكي نرى، هل سنعيدُ ترتيبَ الأمكنة والأزمنة من جديد لباقة البقدونس؟ تلك الباقةُ التي اختلطت رؤوسُها بأذنابها، وأخضرها بأصفرها، نراها ترمز للبعث والتجدد، إنّهم الأحرار المخلَصين يورقون خُضرة ليعيدوا بناء ما تهدّم، لتسقط أوراق الخيانة الصفراء في إشارة إلى احتضان الجدة العريقة لأبنائها وضمّهم إلى صدرها بحنوّ وحبّ، هو حلم الجدة الذي أورثته لحفيدتها لعلّها في لحظة وعي وإدراك تعيد ترتيب الفصول مجدّدا، ورأيت ذلك في قول القاصّة: ” صاحت جدتي مستنكرة حين دخلت الغرفة بعد خمس دقائق، أخذت باقة البقدونس من يدي، رتبتها قليلاً، ثم ناولتني إياها من جديد، طلبت مني أن أمسكها بيسراي، وأن أسحب منها العروق الصفراء بيمناي، ثم عدلتْ ليَ وضعية ذراعي اليسرى، لتصبح باقةُ البقدونس قريبة من صدري، رأسها مائل جهة قلبي، فعلت هذا وهي تتابع تأنيبي، وتخبرني بأنها في مثل عمري، في الخامسة والعشرين، كانت أماً لعشرة أبناء”.


ويتجلى التكامل بين العناوين الرئيسة والفرعية حيث يرمز عنوان القسم الأول من المجموعة القصصيّة “دو، يَك” “ذاكرة” إلى ذاكرة الحرب المتكسّرة، وما تركته من نُدوب نفسيّة وأمراض جسديّة وروحانيّة، لا زالت الأجيال التي عاصرت مرارة الحروب تتخبّط بين ذاكرة الحرب وحرب الذاكرة حتى باتت الذاكرة مجرد فكرة نعلّق عليها العجز عن بناء ذاكرة جماعية فسرعان ما نغرق في حرب الذاكرة وتصير الحرب ذاكرات متضاربة وحكايات تنفي حكايات ومجازر تحجب مجازر هي أشبه بليل امرىء القيس في ذاكرته التائهة عبر الزمن عندما قال:


وليلٍ كموجِ البحرِ أرخى سُدولَهُ عليَ بأنواعِ الهمومِ ليبتلِي


ويكبرُ ألمُ الغربة والاغتراب القسري البائس المنهزم عندما تضيق البلاد الواسعة على أهلها بما رحُبَت فتبتلعهم وتبتلع أحلامهم حيث لا أهل ولا عشيرة ولا أمان ولا سلام ويظهر ذلك في قول القاصّة: “إلى المنزل الكبير دخل الرجال حاملين الصندوق، بضعة رجال فقط، فكثير من الأبناء والأحفاد غائبون، التهمتهم عجافُ الحرب العشر، أو ركلتهم بعيداً خارج البلاد، على طاولة المنتصف في صالة الضيوف الواسعة وسط المنزل، وضعوا الصندوق الكبير، فتحوه ثم غادروا مسرعين.” إنّه بلاء ولا أشدّ ففي ظل غياب المنتصر يصبح الجميع مهزوما لأنّ الجميعَ دفع ثمنا باهظا فنكتب لنجلد ذواتِنا ونلعنَ أقدارَنا.


أعاد الله النورَ إلى أوطاننا، وشفى كلومَنا النازفة.


ودمتم فخرا وذخرا نباهي بكم العالمين.

قراءة نقدية للكاتبة الفلسطينيّة غدير حميدان الزبون لقصة الرأسُ على الرأسِ للقاصّة السوريّة روعة سنبل من مجموعتها القصصيّة دو، يَك

شاهد أيضاً

492 شهيدا و1645 جريحا إثر العدوان المتواصل على لبنان

شفا – أعلنت وزارة الصحة اللبنانية، مساء اليوم الإثنين، ارتفاع حصيلة الشهداء إثر غارات الاحتلال …