قراءة في كتاب معاصر السمسم بين الماضي والحاضر لـ د. سارة الشماس ، بقلم : د. رياض ياسين
حينما يحفر الصبا بذكرياته هاجسًا لدى المرء، ويشتبك مع الأرض حدّ الاندماج؛ لتطرح الأرض وتثمر فيه انتماءً وولاءً لا ينتهي إلا بمفارقة الروح للجسد، حينما تكون الطفولة باكورة الأساس في بناء الشخصية وتحديد ملامحها؛ يتشكل الفرد بنكهة المكان والزمان، فكيف إذا كان ذلك المكان سيدة الأرض فلسطين، هكذا تبلورت شخصية الدكتورة سارة الشماس بتأثير الأرض والموروث الاجتماعي وحلم الطفولة وتاريخ فلسطين، مجذِّرة هويتها الفلسطينية العربية في كتابها «معاصر السمسم بين الماضي والحاضر».
فها هي قد أمضت قرابة الثمانية عشر عامًا تبحث في السمسم، إذ اشتبكت واقتسمت والسمسم تجربة عائلية فرافقت والدها في الصبا إلى حقول السمسم ومعاصره.
معاصر السمسم للدكتورة سارة الشماس ذو أبعاد تاريخية اجتماعية اقتصادية، جاء داعمًا ومؤكدًا للموروث الثقافي والحضاري لفلسطين العروبة سيدة الأرض وبلد الأنبياء. فقد استحضرت الدكتورة الشماس عبر سطور كتابها وقائع وأحداثًا تؤرخ للأرض والإنسان؛ إذ تناولت في كتابها موضوع السمسم بتفاصيل تنبؤ عن صبر الباحث وأمانته العلمية وجهده الدؤوب لتضع بين أيدينا كتابًا قيمًا ذا رسالة نبيلة، حرصت فيه على صدق الكلمة وتوثيقها محققة بطولة الكلمة حين ترتجف القلوب جبنًا؛ فالكلمة رسالة لا يستحق الكل حملها ولا يستطيع.
بشغف الحنين، وبكل أمنيات العودة والاستعادة تخلد سارة عبر سطور كتابها وقائع وحقائق تجذّر هويتنا وتؤرخ لها بحس الباحث وأخلاق الكاتب المخلص لقضيته، فأعظم وأصدق مقياس حقيقي للمثقف حينما يكون مثقفًا عضويًّا مشتبكًا مع أرضه ومجتمعه وقضايا أمته، مسخرًا علمه وعمله لهذا الغرض النبيل.
بدأت الكاتبة موضوعها بالإشارة إلى الأهمية الاقتصادية لمادة السمسم كأحد أهم المحاصيل الزيتية المزروعة في فلسطين، فتناولت أبرز الحضارات التي زرعت السمسم واستخدمت بذوره، ولعل من الشواهد على انتقال زراعة السمسم بين الحضارات، هو التشابه بين مسميات نبات السمسم بين الحضارات المختلفة. ثم تطرقت بشيء من التفصيل إلى ذكر أنواع السمسم وألوانه وأهم الصناعات الغذائية التي يدخل بها في دراسة مجدولة.
قدمت سارة بانوراما تاريخية بصورة احترافية حاولت خلالها التمسك بالحيادية والشفافية في الطروحات التاريخية، فتناولت تاريخ معاصر السمسم من أقدم العصور وأقدم الحضارات وكيف انتشرت بناء على شواهد أثرية وتاريخية، ساعدها في ذلك خلفيتها العلمية في مجال دراسة الآثار التي برعت بها، فقدمت دراسة علمية مهمة تضاف الى كثير من الدراسات التي تؤرخ للزراعة والأرض والأصالة.
التاريخ عندما يكتب بشغف لا يطاله سوء النوايا ويبقى نقيا نديا جاذبا فيه سحره وعبقه، وعندما يخضع لحسابات وأغراض مختلفة لا يكون شهيا، الدرس التاريخي هذه المرة جاء مغايرًا للمألوف، فموضوعه ثقافي حضاري عنوانه الأرض ونتاجها البديع من زراعة، وليست أي زراعة إنها إحدى الزراعات الممتدة في الأرض المقدسة، فتؤرخ سارة لفلسطين منذ أقدم العصور وحتى العصر الحديث ببراعة المصور الذي يعتني بأدق التفاصيل لتأخذ بعين الاعتبار كل ما يتعلق بالسمسم ليس بوصفه فقط نوعٌ من الزراعات الزيتية التي افتتحت بها كتابها، بل بوصفه يمثل وحدة واحدة من زاوية الزراعة والصناعة والتجارة، فهذه الخاصية في كتابها تجعله متفردا على غيره ابتداء.
وفي تفصيل بسيط لهذا الكتاب القيّم نجد أن الكتاب يدور في محورين هامين هما تقديم لمحة عامة عن نبات السمسم كتوضيح منشئه وتاريخ زراعته والبيئة المناسبة، كما يتناول تاريخ وواقع زراعة السمسم في فلسطين، أما المحور الثاني فيسلط الضوء على صناعة عصر السمسم في السياق المحدد لفلسطين؛ فتناول مسميات وأنواع معاصر زيت السمسم ومراحل عملية العصر.
لقد اختارت الكاتبة موضوعًا لم تتناوله الدراسات من قبل وهو غاية في الأهمية التاريخية والتراثية والاجتماعية إضافة لكونه رسالة التجذير التي تبثها الكاتبة من خلال موضوعها؛ فنحن في أمس الحاجة إلى كل ما يؤكد ويعمق جذور الهوية الفلسطينية وارتباط الإنسان بأرضه وموروثه الأمر الذي يعمل الاحتلال على طمسه وتهميشه.
تناولت الدكتورة سارة وبشكل مفصل معاصر السمسم القديمة وما تتميز به من إيجابيات عن المعاصر الحديثة من حيث جودة المخرجات الغذائية التي يدخل بها السمسم.
وسارة حريصة على التراث وقيمته تدعو بحرقة الجهات الرسمية الفلسطينية والمتخصصين إلى تقديم الدعم لأصحاب المعاصر التقليدية من أجل إعادة تأهيلها والمحافظة عليها، وحماية ما تبقى منها، فهي «جزء من التراث الوطني الفلسطيني» حسب وصفها.
الكتاب يؤرخ في سواده الأعظم للتاريخ الفلسطيني الممتد منذ أقدم العصور والي يشهد على عظمة الأرض التي كانت تسمى فلسطين وتجلت عظمتها في بقائها فلسطين سيدة الأرض، حضرت فلسطين في كتاب الدكتورة سارة الشماس حضور شمس الصباح، فلم تستطع سارة أن تحجب نور الشمس عن نافذة كتابها، فقد وجدت نفسها محاصرة بفلسطين بل ومسكونة بها، كيف لا، وهي تحكي عظمة أولى القبلتين وثالث الحرمين وأم الكنيستين القيامة والمهد، هذا العمل لا نحسبه هيّنا في التأريخ لسيدة الأرض وشواهدها، بل هو عظيم في مبناه ومعناه.
ويبقى هاجس الباحث وإخلاصه المبعث الأساس في إبداعه العلمي؛ فكان هاجس الدكتورة الشماس متقدًا ومحفزًا إياها للخوض باحثة ومؤرخة لمعاصر السمسم في فلسطين على وجه الخصوص؛ فهي ترى بأن هذه المعاصر مهددة بالاختفاء بفعل عوامل عدة أولاها وأهمها مرتبطة بالدرجة الأساس بالحروب والغارات المتتالية إلى التي أدت الى تراجع هذه الزراعة وصناعاتها في فلسطين، ناهيك عن غياب الوعي بأهمية الحفاظ على الصناعات التقليدية، بخاصة معاصر السمسم التقليدية»، كما أن سياسة إسرائيل، في مصادرة الأراضي الفلسطينية الزراعية الخصبة، أسهمت كثيرًا في تقليص المساحات المزروعة بالسمسم.
لقد قدمت سارة خصائص السمسم وزراعته وقدرته الهائلة كنبات على التكيف والتأقلم مع البيئة الرطبة، كما تأقلم ونما في البيئة الجافة، وهنا مقاربة ومشابهة بين حال السمسم وحال الشعب العربي الفلسطيني الذي يتكيف مع كل الظروف ويبقى شامخًا رغم كل العواصف والأنواء التي تعصف به، ولعلي هنا أقرأ رسالة ضمنية مفادها ألا يغيب عن الأذهان حال فلسطين وأهلها، والحر تكفيه الإشارة. فالسمسم الفلسطيني عمومًا هو من ملامح الثقافة الفلسطينية.
ولما كانت الثقافة بالمعنى الأنثروبولوجي الذي أراه شاملًا لكثير من تعريفاتها، فإن حكاية السمسم والتأريخ له تشمل أكثر من تعريف للثقافة إن العلاقة بين الثقافة والزراعة علاقة عميقة ومتجذرة في التاريخ، حيث أن الزراعة لم تكن مجرد وسيلة لتوفير الغذاء، بل كانت أيضًا جزءًا من الهوية الثقافية للمجتمعات على صعيد التقاليد والممارسات الزراعية وعلى صعيد اللغة والفولكلور وعلى صعيد هوية المجتمعات وعلى صعيد النتاج الأدبي والفني المرتبط بها.
في معاصر السمسم تشعر أن ثمة عهدا خفيا قطعته الكاتبة على نفسها بإنصافِ الأرض والحدث والإنسان؛ وهذا الإنصاف لا يتأتّى إلا بتوثيق التاريخ والأحداث بصدق دونما محاباة أو تزييف…
حكاية السمسم من الحكايات الفلسطينية التي تبدأ بمحاكاة الأرض، فالسمسم يزرع في فلسطين منذ أقدم العصور وهو شاهد على الإنسان الفلسطيني، الذي نمت معه هذه الثقافة المرتبطة بكثير من المفردات، والزراعة كما تعلمنا أصل الاستقرار وأول مناشط الإنسان الاقتصادية وقد سبقت الصناعة والتجارة بالتأكيد من الناحية التاريخية.
وفلسطين أرض التفاصيل منذ البدايات السحيقة إلى النهايات الواعدة، تشبه السمسم، في قيمتها وإنتاجيتها وفائدتها وزيتها الذي يضيء العالم العربي والإسلامي، فقد أضاءت بشموع نورها الحضاري منذ العصور القديمة عتمة حالكة لكثير من الشعوب التي تنعمت بها.
وفي تناول علمي أكاديمي للكتاب يُشهد لكاتبته بالدأب والاجتهاد في البحث إذ أمضت كما أسلفت ثمانية عشر عامًا كي تخرجه إلى حيز الوجود، كذلك تمتعت الدكتورة الشماس بالأمانة العلمية ودقة التدوين حيث أدرجت جميع المصادر العربية وغير العربية في كتابها مؤكدة لمعلوماتها من جانب وناسبةً كل معلومة إلى مصدرها من جانب آخر، وهنا يذكر لها أنها اجتهدت كثيرًا واتسمت بالنفس الطويل حتى تقدم هذا الكتاب العظيم في معلوماته ومدلوله ورسالته.
فلسطين التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، عن نورها الذي لا ينطفئ وجذوتها التي أعلنت احتراق كل الغزاة الذين حاولوا اغتصابها او النيل منها احتلت دور البطولة المطلق في هذا العمل التاريخي الثقافي الوطني، وما هذا إلا دليل صدق وإخلاص لابنة فلسطين ودلالة انتماء وولاء وعطاء لهذه الأرض التي لم تعرف يومًا غير العطاء.
عميق الشكر نجزلُه للدكتورة سارة على هذا العمل وجل أمنيات التوفيق لها والابتهال إلى الله أن تنعم أمنا فلسطين بالتحرر وإجزال العطاء الذي هو عهدها وعهدنا بها.
- – الدكتور رياض ياسين – أكاديمي في جامعة اليرموك – ونائب رئيس رابطة الكتاب الأردنيين