تجربة النزوح القسري وتأثيراتها على كبار السن: الألم الخفي وراء الصمت ، بقلم : هنادي طلال الدنف
لا تقتصر آثار الحروب على الدمار والقتل فقط، بل تتجاوز ذلك إلى خلق ندوب نفسية وجسدية عميقة، حيث يُعد كبار السن من أكثر الفئات التي تعاني بصمت. بالنسبة لهم، النزوح القسري لا يعني مجرد الانتقال الجغرافي من مكان لآخر، بل هو فقدان للأمان والاستقرار النفسي الذي بنوه على مدار حياتهم.
النزوح بالنسبة لكبار السن ليس فقط تحديًا ماديًا، ولكنه يمثل فقدانًا لكل ما هو مألوف ومريح في حياتهم. يعتمد كبار السن عادةً على الروتين اليومي والشعور بالانتماء للحفاظ على توازنهم النفسي. ولكن عندما تأتي الحرب، يتمزق هذا الروتين، مما يغمرهم في بيئة غريبة وغير مألوفة. يجد كبار السن أنفسهم محاصرين بين الخوف من المستقبل وشعور بالعجز عن التأقلم.
تشير العديد من الدراسات إلى أن القلق والاكتئاب والعزلة الاجتماعية تتسلل إلى حياتهم بشكل متزايد بعد النزوح، وتجد الكثير منهم غير قادرين على التكيف مع الحياة الجديدة، مما يزيد من تعرضهم للأمراض النفسية. وفي غياب الدعم النفسي المناسب، تتفاقم هذه المشكلات.
لا تقتصر معاناة كبار السن على الجانب النفسي فقط، بل تمتد إلى الصعوبات الجسدية. كثير من هؤلاء الأشخاص يحتاجون إلى أدوات مساعدة مثل العكازات أو الكراسي المتحركة، بالإضافة إلى الأدوية الضرورية للحفاظ على صحتهم. النزوح غالبًا ما يحرمهم من هذه الضروريات، ويضعهم في ظروف تزيد من معاناتهم الجسدية والنفسية.
على سبيل المثال، خلال الحرب الأخيرة على غزة، كان الحاج محمود (72 عامًا) يعاني من مرض السكري وضغط الدم. عندما تم إجبار عائلته على النزوح من منزلهم في أحد الأحياء الشرقية بغزة، لم يتمكن الحاج محمود من أخذ أدويته أو جهازه الخاص بقياس السكر. مع مرور الأيام، تدهورت حالته الصحية بشكل حاد، مما اضطر عائلته لطلب المساعدة من الفرق الطبية المتنقلة التي توفر الدعم الصحي للنازحين. هذه القصة هي واحدة من آلاف الحالات التي تجسد الألم الذي يعاني منه كبار السن خلال النزوح.
عند الوصول إلى المخيمات أو الملاجئ المؤقتة، يواجه كبار السن صعوبات كبيرة. الانتظار الطويل في طوابير المساعدة أو التنقل بين الحواجز في ظروف جوية قاسية يزيد من آلامهم، خاصة أولئك الذين يعانون من مشاكل صحية مزمنة. قلة المرافق الصحية المناسبة والرعاية الطبية تزيد من هذه المعاناة، مما يجعلهم أكثر اعتمادًا على مساعدة الآخرين، ويشعرهم بمزيد من العجز والضعف.
إن التعامل مع كبار السن في ظل هذه الظروف يتطلب فهمًا عميقًا لاحتياجاتهم النفسية والجسدية.
يجب توفير دعم نفسي من خلال جلسات فردية أو جماعية تساعدهم على التأقلم مع البيئة الجديدة، وتقديم الرعاية الصحية المناسبة عبر فرق متنقلة تضمن حصولهم على أدويتهم وأدواتهم الضرورية. كما أن الحفاظ على التواصل الأسري والروابط الاجتماعية يمكن أن يعزز من شعورهم بالدعم والانتماء، حتى في ظل النزوح.
النزوح القسري ليس مجرد فقدان للمكان، بل هو فقدان للذاكرة، للأمان، وللحياة التي عرفها كبار السن لعقود. يعيش هؤلاء الأشخاص هذه التجربة بصمت، ولكن خلف هذا الصمت يوجد ألم عميق يتطلب منا التفهم والاهتمام الخاص لضمان تلبية احتياجاتهم النفسية والجسدية في هذه الأوقات العصيبة.