أين ذهب المثقفون؟ بقلم : د. فواز عقل
بداية، هنالك أسئلة كثيرة تثقل كاهلي و كاهل كثيرين من المهتمين بالثقافة
هل الجامعة بيئة مثقَفة و مثقِفة؟ هل المدرسة بيئة مثقَفة و مثقِفة ؟ هل الشارع بيئة مثقَفة و مثقِفة ؟ هل المعلم مثقَف و مثقِف؟ هل كل من يحمل شهادة مثقَف ؟ هل فقدنا البوصلة الفكرية؟ لماذا تراجع دور الجامعات الثقافي في العالم العربي رغم أهميته ؟ لماذا أهمل الناس الجانب الثقافي؟ لماذا هذا الانجرار وراء المعرفة الأكاديمية والشهادات على حساب الثقافة؟ لماذا اختفى المثقفون؟ لماذا تراجع دور الأكاديميين؟ هل أدى غياب المثقفين الحقيقيين إلى ظهور جيل جديد قليل الثقافة هيمن على الساحة الثقافية؟
إن الجامعة و المدرسة المثقَفة و المثقِفة شيء مختلف تماما، و على المدارس والجامعات أن تقرن الثقافة بالتعليم لأن الفرد و الشعب الذي يفتقر للثقافة لن يكون قادرا على مواكبة و مخاطبة العالم المعاصر و من السهل التلاعب به و إقناعه.
أن المدارس و الجامعات مشغولة بالروتين اليومي لأن الروتين هو عدو التعليم، تعليم المنهاج و المواد الدراسية المقررة من الألف حتى الياء، لا مجال عند الطالب للتفكير فيما يقرأ، والطالب لا يقرأ خارج المنهاج كلمة واحدة، لأن القراءة مرتبطة بالنسبة له بالامتحان و النجاح، ولا أبالغ إذا قلت أن مجموع ما يقرأه الطالب خلال سنواته الجامعية في بعض التخصصات لا يتعدى 2000 صفحة ، و هذا يذكرني بما قاله الفراهيدي: أكثر من العلم لتعلم و أقلل منه لتحفظ، و أقول:
يجب أن لا يكتفي الطالب في حصر معرفته بالمنهاج الدراسي فقط، و إن المواد الدراسية و الكتب و المناهج التي لا تناقش في الصف مع الطلاب تفقد قيمتها و على المدارس و الجامعات الالتفات إلى الثقافة الفردية والمجتمعية والإنفاق عليها، و عدم الاستهانة بالثقافة و دورها، فلا بد من برامج تثقيفية في الإذاعة و التلفزيون و شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة التي أصبحت خارج سيطرة البشر و على مؤسسات التعليم زيادة حصة ثقافة عامة في المدارس و طرح مساق ثقافة عامة في الجامعات و الإكثار من النشاطات الثقافية المتكاملة الهادفة الدائمة.
و أنا أرى كذلك أن العملية الثقافية هي عملية فردية ذاتية مستمرة يقوم بها الفرد و غير مرتبط بالشهادة، فليس كل حامل شهادة مثقف و هناك كثير من المثقفين لا يحملون شهادات عليا وقد يقول قائل هذا ليس الوقت المناسب، هنالك أولويات، ولكن أقول: إذا لم يكن الآن فمتى ؟ و إن لم نكن نحن فمن؟ لأنه من غير المقبول الاستهانة بالثقافة و الإنسان المثقف، فالإنسان الواعي المثقَف و المثقِف ثروة لا تقدر بثمن و هو أغلى ما يملك المجتمع في هذا العصر، عصر التنوع الثقافي و المرونة و أصبحت سبل الثقافة مفتوحة و متنوعة و متوفرة في أي وقت و أي مكان لمن أراد أن يعرف ، لمن أدار أن يطور نفسه، لمن أراد أن يثقف نفسه، و لا عذر للمبررين ، لا عذر للتائهين، و في هذا العصر اختفى أبو العُرِّيف.
فالجامعات بعد أن كانت مراكز ثقافية وإبداعية في بداية تأسيسها في القرن الماضي أصبحت مكان يضم أشخاص رفيعي التعلم و أكاديميين مهنيين و لكنهم لا يعدون ضمن الطبقة المثقفة المؤثرة في المجتمع ، فالمثقف الحقيقي أصبح مهددا بالانقراض بسبب كثرة مدعي الثقافة الذين هيمنوا على الساحة الثقافية دون المحتوى الأخلاقي و ظهر جيل جديد يعتقد أنه يملك المهارات و القدرات و الأفكار التي قد تقلب الطاولة رأسا على عقب و إن هذا الوهم أن الشخص يمتلك المعرفة الكافية يؤدي إلى الفقر الفكري و الثقافي، و رحم الله الشاعر الذي قال:
ما عاد أهل العلم سادة قومهم بل سادهم من يتقن التبجيلا
و الساحة الثقافية العربية خسرت مثقفين بارزين ، لا مجال لذكرهم هنا، لذلك يجب تطوير الحياة الثقافية في الجامعات و المجتمع لأن الناس يستحقون مناظرات فكرية في المؤسسات الثقافية و المجتمعية.
أن يكون الإنسان مثقفا يعني أن يشتبك مع قضايا المجتمع و يساعد على انتشال الناس من التعصب و الطائفية و التخلف و الجهل و قد يكون المثقف فلاحا أو تاجراً أو عاملاً أو وزيراً أو أميراً أو ليس حاملة لشهادة ما، رحم الله الشاعر الذي قال:
أدهى من الجهل علما يطمئن له أنصاف ناس طغوا بالعلم واغتصبوا
و أنا أقول: أن تكون نصف مثقف و جاهل هذا ذنبك، أما أن تفرض نصف ثقافتك وجهلك على غيرك فهم مصيبة لك و للمجتمع.
و قد وصف الإعلامي نجم عبد الكريم المثقف بأنه الذي يقلص أكبر قدر من السلبيات و يوسع دائرة الإيجابيات و المثقف ليس فقط من يتحدث اللغة العربية الفصحى ويتحدث عن المعلقات و يردد أشعار المتنبي و أشعار هوميروس اليوناني و يقرأ التاريخ و قصص ألف ليلة و ليلة و يتكلم عن برج ايفل و عن لوحات بيكاسو هذا لديه كم معرفي وليس مثقف.
ويرى تشومسكي عالم اللغويات أن المثقف هو من حمل الحقيقة في وجه القوة، أي أن المثقف له دور قوي في الوقوف إلى جانب الحقيقة من خلال نقد لأي سلوكيات غير مقبولة، تحدث في المجتمع من الأفراد والمؤسسات.
أما الدكتور نديم البيطار فيقول أن الميزة الأساسية للمثقف ليست الشهادة الجامعية و ليست الدكتوراة وليس عدد الكتب التي يقرأها فهذا ما يوصف بنصف المثقف الذي ينقصه القدرة العقلية الموضوعية العقلانية و العقل النقدي في استيعاب المعرفة.
رحم الله الشاعر الذي قال:
حملوا الشهادة دون أي ثقافة ختموا العلوم و أطفئوا القنديل
أما عبد الوهاب المسيري فيرى أن كلمة أكاديمي فقدت معناها و أصبحت تشير إلى إنسان عديم الخيال، يشرح دروسه بطريقة مملة و لا يبدي أي رأي و يتحرك في عالم خال من أي هموم إنسانية حقيقية، خال من نبض الحياة لديه، فلا هم له إلا الحصول على الشهادة و الترقية و مرة أخرى، رحم الله الشاعر الذي قال:
إذا خلا المرء من فهم و معرفة ظلمت نفسك لو تدعوه إنسانا
و يقول الروسي أنطون تشيخوف : إذا رأيت الموضوعات التافهة تتصدر النقاشات في أحد المجتمعات و يتصدر انصاف المثقفين المشهد ، فأنت تتحدث عن مجتمع فاشل حيث لا يعطى قيمة للكتاب و المؤلفين وأصحاب الرأي و لا أحد يعرفهم، لأنهم يؤلموننا بقول الحق، و يضيف أن الديمقراطية لا تصلح للمجتمعات الفاشلة، لأن الأغلبية الفاشلة هي التي ستقرر المصير و في المجتمعات الفاشلة فيها ألف أحمق مقابل كل مثقف.
أما سارتر الفرنسي فيقول: المثقف ليس مجرد صاحب المعرفة الواسعة لكنه ذلك الشخص الذي تجعله معرفته ينحاز إلى قيم الحرية والعدل والتقدم والمساواة.
و يقول ميشيل فوكو الفرنسي : إن المعرفة هي القوة و إن الشخص العارف شخص قادر على إدارة أمور حياته بشكل مستقل ولا يسمح للغير بأن يتحكموا في جوانبها وهو قادر على رؤية أبعاد الأمور بشكل يسمح له أن يتحكم فيها ذاتيا تحكما جيدا، و المعرفة هي القوة لأن أفراد المجتمع حين يمتلكون المعرفة يكون بإمكانهم إدارة دفة أمورهم و معالجة قضاياهم و تصريف أمورهم لا أن يطلبوا من الآخرين القيام بها، و المثقف الحقيقي هو الذي يمتلك الرؤيا و قليل الكلام و كثير الأفعال لأن الأفعال هي ما تؤكد صدق المحبة و الانتماء و التعلم و الأخلاق لأنه عند الكلام فالجميع فلاسفة و هو الذي يكسب بصدقه وصراحته وأمانته وأخلاقه من خلال الممارسة اليومية المجتمع، فالمثقف الحقيقي تأمنه في عداوته و نصف المثقف لا تأمنه حتى في صداقته و يقول مارتن لوثر كينج : أسوأ مكان في الجحيم محجوز لأولئك الذين يبقون على الحياد في المعارك الأخلاقية، و يقول سقراط: بالفكر يستطيع الإنسان أن يجعل عالمه من الورد أو الشوك.
نصيحتي لجيل المستقبل، الشباب و الشابات، ليتعرفوا على دور المعرفة عندما ترتبط بهموم المجتمع و تقوم على الحرية و العدالة و المساواة و هذه المعرفة والنضج تجعلك تتخذ موقف لصالح المصلحة العامة و هموم المجتمع وليس المصلحة الشخصية فقط.
و أنا أقول، نحن التربويين المحاورون، أصحاب اليقظة أصحاب البوصلة نصنع البوصلة ولا ننتظرها لليوم التالي، و علينا أن نخلع ثوب الجهالة البالي و نلبس ثوب الثقافة الباقي.
رحم الله الشاعر حسام الدين جلول الذي قال :
الكلُّ في هذي الديارِ مدرّسٌ والكلُّ فيها شاعرٌ وأديبُ..
والكلُّ إنْ شئتَ البناﺀَ مهندسٌ والكلُّ إنْ شئتَ الدواﺀَ طبيبُ..
والكلُّ في علمِ الحديثِ مُحَدِّثٌ والكلُّ في علمِ الكلامِ خطيبُ..
والكلُّ قدْ درسَ الحقوقَ وعلمَها والكلُّ في علمِ القضاﺀِ رهيبُ..
والفقهُ عندَ الناسِ أمرٌ هيّنٌ فالكلّ يفتي دائمًا ويصيبُ..
ما عادَ في هذي الديارِ تخصّصٌ هذا لعمري مُخْجِلٌ و مُعِيبُ..
لو كلّنا عَلِمَ الحدودَ لعقلهِ ما عاثَ فينا جاهلٌ وكذوبُ..
- – د. فواز عقل – باحث في شؤون التعليم و التعلم