عيش المبدع العربي غريباً ويموت غريباً، لكن المفارقة العجيبة في هذا العالم أنه منسي وغير مُكْتَرث به في حياته، لكنه يصبح مثاراً للاهتمام بعد موته، فما إن يرحل حتى تبدأ المقالات الرثائية أتنهال في تعداد محاسنه وذكر مآثره.
هذه ظاهرة من ظواهر كثيرة موجودة في العالم العربي فقط، هناك.. في الغرب يكرمون مبدعيهم (على الأقل في أغلب المرات) وهم على قيد الحياة، أما نحن فلا نكترث بهم إلا بعد أن يسبقنا إليهم الموت، وكأن التكريم في عرفنا الثقافي مقصور على الأموات فقط.
لا تعمم هذه القاعدة بالمطلق، ثمة انتباهات هنا وهناك لبعض المبدعين الذين يكرمون في حياتهم، وأحياناً يأتي التكريم من قبيل تبرئة الذمة أو رفع العتب.
مناسبة هذا الكلام الجناح الذي تم تخصيصه لتكريم الشاعر الراحل أحمد راشد ثاني في معرض أبوظبي الدولي للكتاب أخيراً. فلا شك في أنها التفاتة أكثر من رائعة ، فصورته المعلقة أضفت على المكان شهقة في الروح، وراودنا الحزن من جديد، وربما كان أشد حلكة، لكن التطبيق لم يأت موازياً لقامة مبدع إماراتي وعربي تميز بعطائه الإبداعي الثقافي.
آلمني كثيراً أن جناح أحمد راشد في معرض الكتاب كان فقيراً ومتواضعاً، مثله تماماً، لا أحد فيه، كتبه منثورة على طاولتين تنتظر المريدين، لا محاضرة عنه، لا أمسية يلقي فيها أصدقاؤه الشعراء شيئاً من شعره، لا ناقد يعلق على مشروعه الثقافي الكبير، لا فيلم تسجيلياً (بالطبع لأنه غير موجود وحبذا لو يكون هذا دافعاً لإنجاز أفلام تسجيلية عن مبدعينا، حتى لو كان فيلماً يجمع أربعة أو خمسة منهم)، هذا يعني أن يصبح جزءاً من الذاكرة ولا نفقده تماماً بعد الرحيل. يؤرقني سؤال يدق رأسي منذ بدأت الكتابات تنهال على روح أحمد، هو: ما الذي يجعلنا لا نفطن لمبدعينا إلا بعد موتهم، بعد أن يغادرونا تماماً ويكفوا عن الفعل الإبداعي في محيطنا وزمننا، بعد أن يبتلعهم الموت، ويغيبهم في بحور النسيان؟ لماذا لا نكرمهم إلا بعد الرحيل؟
تحاصرني أسئلة هي مزيج من القدر والاستشفاف، تضع يدها على جرح الجسد الذي ستفارقه الروح، كأنني أستعيد شريط الزمن، ماذا فعلنا فيه لأنفسنا، وماذا قدمنا للمعرفة التي نحن مصرون على أنها تكويننا وأساس تركيبتنا الإنسانية؟ وعلى هذا الأساس نحاول أن نصل – مع الجسد – إلى صيغة تجعلنا قادرين على المضي قدماً نحو وجود مختلف، على الرغم من أننا نكاد نجزم بأنه سيكون لنا موت مألوف وعادي!
المهم أن ندرك ماذا فعلنا؟ إلى أين وصلنا؟ إلى أين نسير بعد غياب أحمد راشد ثاني؟!