مهما تنوعت وأحاطت أدوات المدَنية شخصاً ما أو مؤسسة، تبقى صفة التحضر منقوصة إذا لم يكن الفعل الثقافي حاضراً في علاقة هذا الشخص أو المؤسسة بالمجتمع وبالآخرين. والفعل الثقافي ليس سلوكاً حكراً على جماعة من دون غيرها، نادراً ما يولد بعضنا بهذا الفعل الإنساني، لذلك فالاستعداد للانفتاح على الآخر بعلومه وقراءة فكره والارتقاء العملي مقدمات مؤثرة بلا شك على وصول الوعي إلى الفعل الثقافي؛ كما أنه صفة تأسيسية في أي مؤسسة قررت أن تكون ثقافية، باعتباره نهجاً تسير عليه في تحقيق عملها، وليس هدفاً كما يضنه بعضهم!
هذه الميزة التي تعد إنسانية بامتياز، لا تعني إقامة الفعاليات الثقافية أو المشاركة فيها، وحضور الأمسيات الأدبية، واقتناء اللوحات النادرة وقراءة الكتب وحفظ أسماء كتابها.. وغيرها من أدوات تَحضُر -دُرج على اعتبار من يقومون بها سواء كانوا أشخاصاً أو مؤسسات يتمتعون بصفة الثقافة أو أنهم مثقفون- بل هو الفعل الذي يفضي إلى القدرة على استيعاب الآخر واختلافاته وكل خياراته، واحترامها وإن اختلف معها، ومن ثم البحث فيها عما هو مشترك، والتمعن في المختلف والنظر له بشكل إيجابي للاستفادة منه. إن فعل الاستيعاب ليس بتلك السهولة التي قد يعتقدها بعضهم تزيفاً بينه وبين نفسه أنه يمارسه، والحقيقة أن قليلين جداً من استطاعوا الوصول إليه وفعله.
غالباً ما نتشدق نحن البشر كثيراً بأقوال تعجبنا، فنتبناها علناً، ونعيشها صورة نرسم ملامحها بدقة على وجوهنا، ونصطنع من بعضها أفعالاً نوهم أنفسنا بأنها لنا، كاحترام الآخرين واختلافاتهم، وقناعاتهم، وآرائهم وكذلك ذائقتهم؛ ومن دون وعي نسقط في فخ تصديق أنفسنا؛ في حين أن كل الممارسات الصادرة منا تحمل أحكاماً على الآخرين، أغلبها أحكام قطعية لا تقبل المناقشة؛ فنعتقد أننا الوحيدون الرائعون والمبدعون وأصحاب الحضارة والطيبون الأذكياء، والمظلومون أيضاً، فهناك من يكرهنا ويغار منا. هذا التصور المخادع للنفس يجعل الإنسان لا يرى في المعمورة سوى نفسه، ومن لا يرى غيره، لا يمكن أن يعرف حقيقة نفسه. المصيبة الحقيقية تتعدى ذلك بكثير، فبعضهم يتصرف على هذا النحو بدعوى ارتكازه على قيم راسخة! بينما الحقيقة الوحيدة التي يجب أن نرتكز عليها، أن لا أحد يمتلك الحقيقة الكاملة، وأن القيمة الراسخة التي يجب أن تكون قاعدة ونهجاً لكل سلوكنا، قبول الآخر المختلف والتعاطي معه من منطلق أنه يملك جزءاً من الحقيقة التي لا نراها، وأنه شريك لك على ذات الأرض يقاسمك الهواء نفسه.