قبل أيام قرأت خبراً عن سيدة قبطية قتلت زوجها المخمور. وقطّعته ورمت جثمانه، حدث ذلك بعدما تعذر عليها الطلاق، بسبب التزمت الكنسي؟ خبر كهذا كان يثير قراء القراطيس، لكنه في زمن النت أصبح مساحة لإنفعالات وتعليقات، قد تنسفه أو تمتص زخم ما فيه من جريمة وفاجعة.
وكم صدق حدسي، فقد توقعت أن أقرأ ضمن التعليقات: الحمد لله على نعمة الإسلام الذي حرّم الخمر، أو الحمد لله على أبغض الحلال (الطلاق)..إلخ وتوقعت أيضا أن يثور قبطي ويطالب برحيل هؤلاء الأعاريب لصحاريهم، فمصر هي إيجبت “أرض القبط”؟ وهكذا يصبح الخبر حرب طواحين، فمفردات “قبطي، طلاق، كنيسة” كافية لإشعالها، ولو أن الخبر أخفاها لما أكترث له أحد (المفردات هي مفاهيم تختزل بنى معرفية وتاريخية وإجتماعية)
إن ترويج الخبر يعتمد أساسا على معرفة وعاطفة المتلقي وهويته، أي على سبل إدراكه.
واللغة وإن كانت وسيلة للإبلاغ وتمثيل للوعي، فإن تنصيصها في لغة راقية ومجازات عقلية يجعلها أداة للتمويه، وسلطة قادرة على تدجين وقولبة ذلك الوعي، وفرض منظومة قيمية وذائقة عامة وتابوهات جديدة، فالأمم القوية لا تسيطر بأساطيلها فقط، بل بلغتها الساحقة.
في زمن النت، أصبحت النصوص والأخبار ساحة حروب إفتراضية، ومجالا دبقا يجتمع حوله الذباب.
إن مقتل ثلاثة أطفال جريمة فظيعة لذاتها؟! والأفظع أن يكونوا يهودا وقاتُلهم مسلم، بيد أن الحادثة تصبح استعراضا للغة القوة، لحظتما تُستعرض بجنازات فخمة يتقدمها رجال الدول وعدسات التلفزة؟!حينها ننسى أن ملايين الجزائريين في فرنسا، هم أحفاد حقبة إستعمارية ظالمة، وأجدادهم كانوا جنودا في مستعمرات خفق عليها ال تريكولور؟ أو أحفاد من قضى أيام حرب التحرير؟
فأن يكون القاتل إسلاميا (للصدفة مطلوب للسي، آي، إي دون أن يُقبض عليه! وتقتله الشرطة بدل أن تقبض عليه) يجعل من القاعدة والإرهاب والجهاد إلى عمرو بن العاص وسورة التوبة.. مادة تتدحرج بدون ضوابط عقلية.
إن البداهة في جريمة فردية، أن تُنسب لمرتكبها أولا، فقد يكون مُختلا سيكوباثيا، تماما كأندرس بريفيك الذي قتل 93 نرويجيا، وثبت إعتناقه لهلوسات اليمين المسيحي (وموقع “جهاد وتش” لسبنسر) فهل يكفي ذلك لإدانة مروجي الصهيو مسيحية؟! وهل يمكننا رجم اليهودية وتاريخها إذا كان القاتل مؤمنا يهوديا؟
يقول بعض المتفلسفة بأن العقل”شبكة من علاقات المنطق” والعقلانية انخراط داخلها بما يوافق زمكانها. فالبابلي الذي قدّم لآلهته القرابين ورؤوس الغلال، لاستعطافها أو اتقاء غضبها. لا يختلف جوهريا عمن يؤدي خدمة العلم ويدفع الضرائب. فكلاهما ينحني لسلطة مازالت شرطا للإجتماع البشري، وكلاهما ليس مالكا للحقيقة،
وإذ لا رشوة تعادل فكرة الدين عن الخلود، لابد الإقرار بأن لغة الدين بليغة الأثر، كونها إبتعدت عن التجريد ووظّفت القصة والشعر والأمثال وما يسحر اللبّ، لتخاطب خوف الإنسان ورغباته وخياله فاستأثرت به وأسرته داخل حقيقتها (دوغما)
ليست الأديان وحدها، فالأدب والفنون لها نفس الأثر، حتى جملة ماركس الشهيرة “الدين أفيون الشعب” فقد إتقدت بوقود بلاغتها. وتركت النص يأكله النسيان.
وخلف هذه المعاني، تظلّ اللغة أداة وحيدة للعقل، وبدونها لعجزنا عن التفكير ولما استطاع كانط القول “لا معرفة سوى ما يقوله العقل عن العالم”
فأية خربشة بسيطة على الورق نفهم مغزاها فورا، لأننا نملك صورة مسبقة عنها، أو نموذجا متعاليا transcedental يتوسط بين العقل والإدراك، وبين المرئي والمصطلح (أي اللغة التي تُعرّف ذلك المرئي) هذه الصورة المخزونة سواء كانت حسية أو لغوية، هي التي تدفعنا للإستنتاج بأن تلك الخربشة على الورق تعني: شجرة أو بطة أو ..
ولعل إختلاف الثقافات والأفراد، يرجع بصورة حاسمة إلى إختلاف تلك النماذج المتعالية المُودعة في مُخيّلتهم، وما تُضفيه عليهم من رموز ومعاني. والإختلاف بينهم أشبه بتباين لصور لغوية، واختلاف لعلامات شبكة الدلالات
ها هنا قد نعثر أيضا على معضلات الكتابة والقراءة، التي عادة ما تتحول إلى حوار طرشان أو سوء تأويل، خصوصا في نصوص تمسّ هوية الأفراد والجماعات. فأية جملة مهما كانت بريئة قابلة للتلقي والتمثّل بصور شتى:
[إن نينوى ونمرود واربل (أربيل) واراخا (كركوك) مدن آشورية قديمة، أما السليمانية فكانت موقعا عسكريا أنشأه العثمانيون لحراسة الحدود مع الصفويين]
المقطع الأنف الذكر، بريئ فقط بمعزل عن الايديولوجيا، لكونه يتسق مع منهج التاريخ والأركيولوجيا السائدة. لكنه يصبح خبيثا وقابلا للتأويل والإستطراد بقدر ما نملك من نماذج متعالية (ترانزدنتالية) مخزونة في ذهننا. فمفرداته العابرة، عابرة أيضا للحقب والهويات، ومُحمّلة بمناخنا الحالي وعواصفه وأتربته، وعلى الأرجح فإنه لا يمثل شيئا لمن يعيش في الكونغو، لكن مفرداته ستُعجب العربي وتطرب السرياني، وقد تغيظ الكردي، مع أن لا شأن لهم بتاريخ تلك المدن، ولم يقرروه بأنفسهم، فقد كانوا قبل قرن ونصف يعيشون إنقطاعا معرفيا عن ماضيهم، بسبب الأميّة المطلقة وشظف الحياة، بعيد التدمير التيمورلنكي للمشرق، فجلّ تلك المدن، ندين بمعرفتها للأركيولوجيا الحديثة التي فكت طلاسم لغتها وثقافتها.
لكنها بالحقيقة مفردات ارتدت صورا متعالية، بسبب توظيفها في صناعة الهوية الوطنية العراقية، وتشكّل جماعاته المعاصرة.. ولو أن سايكس وبيكو قد تركا تلك المدن في تركيا الحديثة، لأصبحت جزءا من تراثها وثقافتها [العراق بتعريف الخوارزمي (حوالي 1000م) هو أرض تمتد من سامراء شمالا إلى شطآن الخليج جنوبا (ويضم عبدان والمحمرة والكويت)]
حتى الإستعارة الأخيرة من الخوارزمي يمكن تأويلها برغبة مضمرة لتخليص العراق الحالي من شماله؟؟
أيضا فإن الصياغة الأخيرة “تخليص العراق من شماله” توحي على بلادتها، برفض الهيمنة الكوردية على العراق.. كذا تكون اللغة الكتابية حلقات متتالية للتمويه والإنحياز..
قبل مدة حضرت مراسم دفن وعزاء أحد المعارف، وعشت عالما كثيفا تحكمه لغة الموروث والطقوس (صلاة جنازة وأدعية وقراءة فاتحة وتجهم وكلمات مواساة)
ما أرقني فعلا كان هزال الحداثة، فالحضور كانوا صرعى للغة عربية لا مناص منها (رحمه الله، البقاء لله، الأعمار بيد الله، مثواه الجنّة انشاءالله، اللهم امنح ذويه الصبر، إنا لله وإنا إليه راجعون .. إلخ) لم يكن ممكنا في هذه التقاليد التضامنية للجماعة، أن يعثر المرء على مفردات عربية عقلانية تتصدى لمألوف لغوي دوغمائي، يفرض عقائد حتمية مثل: وجود الروح، ووجود ملاك يقبضها، وحياة ما بعد الموت، وثواب وعقاب.
ليس بمستطاع لغتنا أن تقول: شكرا للحياة التي منحتنا فرصة لقاء المتوفي! إننا أشجار، تنمو من بذرة ثم تخضوضر وتزهر فتطرح بذورها ثم تموت لتعيش في أشجار أخرى، ليس ممكنا سلب الناس حلمها بالأبدية. وهكذا تستمر اللغة (وعاء العقل) طريقا قسريا لتكرار ذات الجماعة ولحمتها وبناها النفسية الموروثة.. فاللغة القديمة تنتج عقلا قديما، لهذا لم تكن النهضة الأوروبية ممكنة فعليا، إلا بعد شنق اللاتينية (لغة الإكليروس والكتاب المقدس) بحبل مارتن لوثر.
ها أنذا أنهيت النص دون أن أقول شيئا، فنحن في عصر النت. لقد ولى زمن الكتاب الذي يحبس الأنفاس ويأسر الحواس “فالمعرفة لم تعد إجابة شافية على سؤال أو سدا لعوز، والمفكر لم يعد بنّاءا لمداميك المعرفة بل معّولا لنقض مسلّماتها وحقائقها القديمة. والفكر المعاصر هو حالة “تعلّم” أو محاولة دؤوبة لملء الجهل والخواء. فالجهل هو الأصل” (1)
1ـ اقتباس بتصرف من مقالة عادل حدجامي “مفارقات الفكر وشراكة الكتابة”