ماذا عليّ أن أقولَ يا أخي؟ بقلم : وصال أبو عليا
أيُّها المناضلُ الحيّ:
يوجِعُني استنهاضُ الذكرياتِ في حضرةِ الشهداءِ يا أخي، وتوجعُني الكتابةُ عنكَ وعنهم، كيفَ لي أن أروي الماضي بأضلعي المتثاقلة الآن وكلّ ما فيها ملحٌ وبارود، فكلُّ الكلماتِ والجملِ تبدو مبتورةً مثلَ رحيلِكم، كلُّ ما قيلَ وما سيُقالُ لا يُعيدُ ضحكةً هنا أو ذكرى هناك، فقط أشعرُ بنَزفٍ على أصابعي أمام فُوَّهةِ السَّنَواتِ المتقرَحة التي تبتلِعُ رائحتَكم في أحشائِها.
ما الذي اعتلى ذهنَكَ وأنت تقفِزُ من مِساحةِ ترابٍ إلى أخرى بعد أن بُوغِتَ جسدُكَ بالرصاصةِ الأولى؟
هل انتفضَتْ حواسُّكَ ووَقْعُ أقدامِ الجنودِ خلفَك؟ أم أنك كنتَ بوعيٍ متَّقِد، وأنت تنهضُ من قلبِ الطفلِ إلى قلبِ الرجلِ فيك، هكذا في لحظة، أم قرَّرْتَ أن تكونَ في انتظارِهم؟
هل رصدوا قلبَكَ من عدسةِ البندقية؟ لقد وجدوه كبيرًا بما يكفي، ولم تكُنْ تملِكُ زمانًا مُوازيًا لتنهضَ مرَّةً أخرى، وماذا لو كنْتَ تجلسُ القرفصاءَ بعد أن نفدَتْ ذخيرتُكَ من العُبُواتِ المملوءةِ بالمولوتوف، وأنت تحدِّقُ في وجهِ الحريةِ وتبتسم؟ لعلها تتسع رقعتها.
ماذا رأيت؟ هل كان يرحَّبُ بكَ، كما كنْتَ تعدو نحوَ البلاد؟ كيف لي أن أصِفَ ذلك يا أخي، فقلبي معزولٌ ومتبولٌ، يشقّه الفراغ، فأَخيطُ به جروحًا لا يعلمُها أحد، وأخشى أن تتلعثمَ حنجرتي وهي تُلملمُ شظايا الكلمات، أخشى أن أقولَ أكثرَ فيشتعِلَ دمي.
قل لي: بعد أن توقِفَ توالي الرَّصاصِ على جسدِك، ما آخِرُ صورةٍ كانت قبل أن تُغلِقَ عينيك، وقبل أن تصطادَكَ الأرضُ بكاملِ نُضجِكَ؟
قل لي: ما هي طقوسُ الشهداءِ في المشهدِ الأخير؟ وأعلمُ أنَّه لا يمكنُ ترويضُهم.
أتعلمُ كيف كانت ليلتُنا الأولى؟ كانت قلوبُنا تستحضِرُ كلَّ حركةٍ لك، وكلَّ كلمةٍ، وكلَّ موقفٍ، كانت ثقيلةً بما تحملُ، بعد أن فُتِحَتْ أبوابُ الغياب، لم تكُنْ الخارطةُ تتَّسِعُ لنا، ولا كلُّ الحدود.
لقد حَلمْتُ بكَ مرَّةً تلو المرَّة طَوالَ ثمانيةَ عَشَرَ عامًا مضت، وفيها ينمو الحزنُ معَها ويكبر، وفي كلِّ مرَّةٍ كنتَ يانعًا راغدًا.
أتسمعُني؟ أتسمعُني الآن؟ فأنا أَرثيكَ وأُعلِّقُ صورَكَ على الجدران؛ لتقومَ، وربما عليَّ أنْ أعودَ طفلةً لأستعيدَكَ بينَنا.
أيُّها المناضلُ الحيّ: سأبقى أناديكَ حتى لا يصدأَ صوتي، فمنذ أيّامٍ حرصْتُ على زيارتِك، وما أن اقترَبَتْ قدمايَ حيث يرقُدُ جسدُكَ، اهتزَّ قلبي، توسَّدْتُ أطرافَ الضَّريح، وكأنَّني أُلامسُ شعرَكَ، كم شعرْتُ برغبةٍ عارمة باللقاءِ يا أخي، تأمَّلْتُ أنْ تنهضَ وتنفُضَ هذا الترابَ الحائلَ بينَنا، لكنَّ الأمرَ ترابٌ وأكثر.. ولا مُفرداتٍ في اللغة تُخفِّفُ ثِقَلَ كلمةِ مقبرة.
وكلّما أطلّ جسدُ شهيد في المكان، أراكَ تحملُ تابوتاً كما الشهداء الآخرين، تشعلون جروحاً في الطريق، وتنسجون وطناً من عظامنا التي أنشأها الله أول مرة، في القدس وحيفا والناصرة وصولاً لغزة، وتعبئون قلبَها بالنشيد والأغنيات، لتعلنوا تحررَ البلاد.
إنّ بلادَنا وفيَّةٌ كما ينبغي، فهي تَمنَحُ مولودَها اسمَ الشهيد. ولكنْ متى ستُصبِحُ صورُ الشهداءِ مغموسةً على الأختامِ في دولةِ فلسطينَ المحرَّرة؟