المفاوضات الجارية ساحة أختبار للقوة والقدرة على التحمل السياسي والأستراتيجي، بقلم : مروان أميل طوباسي
بعد قرارها شن حرب الإبادة على غزة وقبل ذلك في القدس والضفة الغربية المحتلة وتوسيع الاعتداءات ضد جنوب لبنان والرغبة في استمرار ذلك لاعتبارات عقائدية واستعمارية ، فان وضع دولة الأحتلال في العالم لم يعد كما كان في السابق حتى باتت تقف في قفص محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية وتواجه العزلة من جهة وافتقارها الى قوة الردع الإرهابي التي كانت تتغنى بها . فدماء غزة والأبادة وما نتج عنها من التظاهرات حول العالم المنددة بكل ذلك ، جميعها حولت اسرائيل الى دولة منبوذة بطرق لم تكن قائمة في السابق ، وها هي الارقام في الاقتصاد من جهة اخرى تتحدث عن ان ما يصل الى ٦٠ الف شركه قد تغلق ابوابها في دولة الأحتلال هذا العام اضافة الى هجرة ٣٠ الف من المهنين وخاصة الاطباء حتى باتت مستشفياتهم في ازمة الى جانب المؤشرات الاقتصادية المتدهورة الأخرى التي تعكس اشكال ازماتهم .
وعلى هذه الجبهة كما سواها لم يعد الدعم الأمريكي ينفع بل يسبب احراجا لإدارة البيت الابيض من الجمهور الامريكي خاصة في معركة السباق الانتخابي ، كما وحول العالم ايضا .
ان المسألة الجارية تتعدى طموحات مجرد شخص ، ان القاء اللوم كله على نتنياهو يتجاهل مشكلة أعمق وهي التآكل التدريجي في التفكير الأستراتيجي لإسرائيل على مدى السنوات الخمسين الماضية وهنا تحديدا تتبدل اخطاء رئيسية ، ولعل ابرزها كما يقول العديد من مفكريهم انفسهم هو القرار بالاحتفاظ بالضفه الغربية وغزة واحتلالهما واستعمارهما تدريجيا كجزء من جهد طويل الأمد لأنشاء “اسرائيل الكبرى” أو “مملكة اليهود ” وما نشأ من تضارب بين الطابع اليهودي لإسرائيل “ونظامها الديمقراطي” المطلوب ان يكون نموذجيا في المنطقه من جانب الغرب .
ان العديد من هؤلاء المفكرين تحديدا يشعرون بالقلق لانهم يريدون مستقبلا مشرقا لدولة الأحتلال ويطرحون الأسئله من دون اجوبة حتى الآن عن اسباب التراجع الحاد في التفكير والأداء الإستراتيجي الإسرائيلي ، وهنا تكمن الخلاصة عندما تقود الغطرسة الى الأنحدار الكبير لأسرائيل بين حربين ، حرب في غزة لا تستطيع الانتصار فيها يهدد استمرارها بتوسع حرب إقليمية او حتى دولية ، وحرب داخلية تعمل على تآكل امكانياتها في التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي بل لطبيعتها.
في خضم كل ذلك تتزايد التباينات داخل المجتمعات اليهودية المختلفة بإسرائيل وما تمثله كجماعات استيطانية اتت الى فلسطين ، وتزايد الضغوطات من قبل عائلات الأسرى في إسرائيل لتحقيق انفراجة في المفاوضات الجارية وتصاعد الدعوات لوقف فوري لحرب الإبادة من جهات دولية مختلفة شعبية ورسمية وأممية ، لكن دون مسألآت او فرض عقوبات تؤدي الى ذلك ، خاصة في ظل ايهام العالم بجدية المفاوضات الجارية للوصول الى أتفاق ينهي عدوانية دولة الأحتلال .
بعض المصادر تشير إلى أن هناك تساؤلات حول ما إذا كانت المفاوضات الجارية في الدوحة ولاحقا بالقاهرة تهدف فعلاً إلى التوصل إلى اتفاق سريع، أو أنها تهدف إلى كسب الوقت وتأخير الرد الإيراني ورد حزب الله ، خاصة بعد سعي نتنياهو الى المناورات المفضوحة في شأنها بل والتهرب من استحقاقاتها .
واضح أن الجانب الإسرائيلي والأمريكي يحاول تسويف مجريات المفاوضات لتجنب ضربة من إيران أو حزب الله، أو على الأقل تأجيلها لحين التوصل إلى تسوية تضمن مصالحهما. كما أن الضغوط الدولية، خاصة من الولايات المتحدة وحلفائها، قد تكون مصممة لإبطاء أي رد فعل إيراني أو من حزب الله، بينما يتم التفاوض على وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى دون الالتزام بما جاء في قرار مجلس الأمن سابقا بالخصوص الذي ترتكز عليه مطالبات حركة حماس بتنفيذه واعتباره اطارا للتفاوض ، واتتضاح رؤية نتنياهو في استكمال حرب الإبادة والتهجير في غزة وما يرتبط بها بالضفة الغربية والقدس ايضا بعد انتهاء المرحلة الأولى من الصفقة في حال اتمامها ، وهذا ما كشفته وثيقة أتفاقه مع الثنائي الإرهابي بن غفير وسموتريتش .
باعتقادي هذه المفاوضات هي معركة إرادات ، فالجانبان الإسرائيلي والفلسطيني، وكذلك الولايات المتحدة وإيران، يضعون جميعا استراتيجياتهم وفقا لمصالحهم القومية والإقليمية، مما يجعل من هذه المفاوضات ساحة اختبار للقوة والقدرة على التحمل السياسي والأستراتيجي .
من جهة ، تحاول إسرائيل والولايات المتحدة استخدام المفاوضات كأداة لتأخير أي تصعيد عسكري كبير من قبل إيران وحزب الله، في ظل تصاعد التوترات بعد عمليات الاغتيال الأخيرة .
هذه الاستراتيجية قد تهدف إلى كسب الوقت لتهيئة الأوضاع دبلوماسيا أو على الأقل لتحضير مواقفهم بشكل أفضل قبل أي مواجهة محتملة.
ومن الجهة الأخرى، فإن المقاومة والفصائل الفلسطينية وايران قد ترى أن هذه المفاوضات ليست أكثر من محاولة لإضعاف موقفهم وإطالة أمد الصراع وتحقيق مزيدا من جرائم الأحتلال في غزة وتوسيعه بالضفة دون تحقيق نتائج ملموسة . هذه الديناميكية تخلق وضعا حيث كل طرف يحاول فرض إرادته وإملاء شروطه، مما يعزز الشعور بأن المفاوضات هي بالفعل معركة إرادات وليست مجرد عملية دبلوماسية.
في النهاية، هذه المفاوضات تمثل جزءً من الصراع الأوسع على النفوذ والسيطرة في المنطقة، حيث يسعى كل طرف إلى إثبات قوته وتعزيز موقعه الإستراتيجي في ظل الظروف المعقدة والمتغيرة سريعا حتى بالعالم .
امام ذلك ، هناك دلائل تشير إلى أن الولايات المتحدة قد تكون في طريقها لفقدان بعض من قدرتها على الهيمنة في الشرق الأوسط . هذا الأمر يعود إلى عدة عوامل معقدة ومتداخلة ،
أولاً، تراجع النفوذ الأمريكي يمكن أن يُعزى إلى تحول الأولويات الأمريكية نحو منطقة آسيا والمحيط الهادئ، خصوصًا مع تنامي النفوذ الصيني هناك. هذا التحول ترك فراغا في الشرق الأوسط تحاول دول أخرى مثل روسيا، الصين، وإيران اشغاله .
ثانياً ، فشلها المتكرر في تحقيق استقرار دائم في المنطقة، سواء من خلال الحروب أو محاولات التوسط او سرابية وعودها ، قد أدى إلى تقويض الثقة في القدرة الأمريكية على التحكم في الأمور . صعود القوى الإقليمية مثل إيران وتركيا، وتطور قدراتها العسكرية والسياسية، قد أضعف من قدرة الولايات المتحدة على فرض شروطها.
ثالثاً ، التطورات الأخيرة في العلاقات الدبلوماسية الإقليمية، مثل اتفاقيات السلام والتطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل، قد تكون بمثابة محاولة لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة كوسيط رئيسي . إضافةً إلى ذلك، التقارب المتزايد بين بعض الدول الخليجية والصين وروسيا .
مع ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بنفوذ في الشرق الأوسط بفضل تحالفاتها العسكرية والاقتصادية القوية، خاصة مع دول مثل السعودية وإسرائيل . ولكن هناك شكوك متزايدة حول قدرتها بالحفاظ على هذا النفوذ في ظل المتغيرات الجيوسياسية المستمرة والتي لن تقف في نقطة معينة سندا لصيرورة التاريخ . وهي تواجه تحديات متزايدة من القوى الإقليمية والدولية الأخرى تحديدا من الصين وروسيا وتحالفاتهم الدولية الناشئة مثل البريكس وشنغهاي.
من الممكن أن تكون هناك ضغوطات غير مباشرة من قبل روسيا والصين على مجريات المفاوضات في الدوحة والقاهرة . كلا البلدين لهما مصالح استراتيجية في الشرق الأوسط ويرغبان في تعزيز نفوذهما على حساب الولايات المتحدة وحلفائها حيث استقبال الرئيس أبو مازن الذي يفترض انه فقد الثقة بالأمريكان سندا للمنطق السياسي يبدو انه كان في هذا الاتجاه .
ففي حين أن روسيا والصين قد لا تكونان مشاركتين بشكل مباشر في المفاوضات ، فإن تأثيرهما يمكن أن يظهر من خلال تحالفاتهما الإقليمية ومواقعهما الدولية . يمكن أن تضع هذه الضغوط حدودا على الخيارات المتاحة للأطراف في المفاوضات، وتؤثر على محركات ومتغيرات القوة بشكل غير مباشر.
إجمالاً ، تبدو الضغوط الروسية والصينية جزءً من التنافس الدولي الأوسع على النفوذ في الشرق الأوسط التي تحاول الولايات المتحدة الهيمنة عليه ، دون اغفال بان مواقف تلك القوتين ترتكز على تاكيد الحقوق الوطنية غير القابلة للتصرف لشعبنا الفلسطيني وإنهاء الأحتلال على نقيض الولايات المتحدة التي تتصرف كشريك استراتيجي لدولة الأحتلال وسياساتها ، ويمكن بذلك أن تلعب تلك القوى دورا في تشكيل نتائج المفاوضات الجارية ومستقبل المنطقة .