زمن القهوة والموسيقى والعلوم، بقلم : شروق أحمد
في صباح أو عصر كل يوم وفي ظهرية هادئة لا يوجد فيها لا ضوضاء ولا أصوات ازدحام أو حتى أصوات الأذان التي تعلوا من مئات المآذن وكأن مأذنة واحدة لا تكفي، وفي عصرية جميلة يتربع على عرشها طقس جميل وهواء قليل البرودة وكأنه نسمة حب تتغلغل في قلبي ومع رائحة القهوة التي ترسو في ميناء طاولة صغيرة عليها كتاب وفي خلفية ذلك المشهد موسيقى لفيروز وهي تقول “في أمل ايه في أمل وأوقات بتطلع من ملل” وفي الأفق سماء تتلون بلون البنفسج الجميلة وكأنها لوحة لبيكاسو، ومع أول رشفة من القهوة المرة المخملية تنتعش الروح ومعها القلب يدق وكأنه في انتظار موعد عمياني، العزلة في تلك اللحظة تصبح جنة بعيداً عن الضوضاء والثرثرة والقيل والقال، بعيداً عن الرسميات والمجاملات وبعيداً الوجوه التي ترتدي في كل لحظه قناع من أجل إرضاء المجتمع، هنا تصبح العزلة الجنة التي يتحدثون عنها.
لأننا في هذا الزمن فقدنا البوصلة ليس فقط مع الحياة لا بل فقدنا البوصلة مع العقل والمنطق والإنسانية ولم يبق شيء وقد حرم، الموسيقى أصبحت مؤامرة أو موسيقى العدو يجب ألا نسمعها، أصبحت القهوة سياسية وحتى العِلم سياسة، بل حتى اختلاء الزوج بزوجته طقس ديني وكأنه مشهد من العصور الوسطى، العقل ترك هذا العالم وغادر لأنه اصبح بلا معنى أو فائدة، أصبحت الأمة العربية خصوصاً أمة تقاد مثل الحملان ما أن يدس أحد خبر مفبرك وغير حقيقي حتى تقوم الملايين في الوطن العربي بنشره وتصديقه وحتى الغضب الغير مسبوق لخبر أصلاً غير حقيقي ومفبرك، القهوة أصبحت تشرب لنشر الشائعات ونشر الشر وحبك المؤامرات والفوضى، والموسيقى أصبحت تسمع على مزاج السلطان، وأصبحت الأغاني محرمة بالنسبة للفنان نفسه ولكنه يمتهنها إلى حين تكوين الثروة وبعدها التوبة للرب لأنها مهنة كما يلقبونها الفنانين نفسهم “مهنة محرمة والتوبة ستكون في وقتها” إذا كان الفنان مقتنع أن فنه حرام فماذا نقول عن رجل الدين الذي يحرم حتى الهواء.
وفي زمن أصبح العِلم محرم لأن السؤال عن المجهول هو كفر في منظور البعض وكيف لعالم أن يكون متدين وكيف يلتقي الأول بالأخير، وأصبحت مقولة” العلم عند الله” أقصر إجابة للوقف عن البحث والتقصي وفهم الكون الذي نحن جزء أصغر من حبة التراب فيه، وهناك من يسأل شيخ دين عن إذا كان حلال أو حرام أخذ اللقاحات أو شحذ العلم من جامعات أجنبية أو حتى دخول دورة المياه، أصبح العلم كفر والقراءة في كتب قديمة تتحدث عن نشأة الكون وبحوث عن أصل الإنسان كفر، حرق الكتب لأنها تغضب الرب، صبحت صفحات كتبها دارون أو يوفال هراري حرام قرأتها لأنه الأول محرف وكافر والثاني صهيوني عدو، يا إلهي ما لذي وصلنا له، ولماذا نذهب بعيداً هناك من حرم وحرق رواية قواعد العشق الأربعين للروائية إليف شفق وكأننا نعود إلى زمن حرق الساحرات، ماذا حدث لهذا العالم وخصوصاً الجيل الشاب الذي من المفترض أنه على علم بكل ما يحدث من حقائق ومعلومات في هذا الفضاء المفتوح، هل يعقل أن في زمن فيه الهاتف الذكي والكمبيوتر المحمول والموسوعات العلمية الموجودة في كل زاوية من هذا الفضاء وسهولة الوصول إلى أنواع البحوث والمعرفة أصبحت متوفرة بشكل مجاني إلا يجب أن يكون هذا الجيل هو جيل التنوير وجيل الحقائق وجيل السلام مع الآخر، هل من المعقول أن يكون جيل الخمسينات و السبعينات أكثر تنويراً من هذا الجيل على الرغم من عدم قدرتهم على السفر بحرية كما الآن أو قدرتهم على الوصل للمعلومات كانت شحيحة وغير مقبولة من السلطات، لم يكن مسموح بقراءة أغلب الكتب في ذلك الزمن والسفر كان شيء صعب بسبب أمور أمنية وإجراءات تعسفية، ولكن اليوم الحرية في قراءة الكتب و البحث عنها في مجاني بين أيدينا والمستغرب أن معظم هذا الجيل أصبح متدين ومتطرف بأفكاره الدينية والمعتقدات القديمة وذهب زمن القهوة التي ترتبط معها الجلسات الفكرية والأحاديث المستنيرة وارتباطها بحبيبين يتبدلان الحديث الحميم ونظرات الحب، وذهب زمن الموسيقى التي خرجت من رحمها آينشتاين وغابرييل غارسيا ماركيز وطه حسين وأغلب الكتاب والعلماء الذين اعطونا كل ما هو جميل سعيد وحتى الحياة نفسها واختراعاتهم التي أخرجت لنا كل شيء نعيش بسببه اليوم ومعها بالطبع ذهب العلم والعقل وكل ما هو عاقل ومتحضر، لأن تحضر الشعوب ليس بقيمة الحذاء والحقيبة وثمن السيارة أو الطائرات الخاصة بل تحضر الشعوب بحديثها الراقي عن لآخرين و التسامح مع الأديان الأخرى ويرتبط تحضر المجتمعات بالفن الذي يفتح العقل ويرقص معها المحب والعٌالم وحتى المقهور وغير ذلك هو مضيعة للوقت الحاضر والمستقبل.