7:47 مساءً / 19 سبتمبر، 2024
آخر الاخبار

حيٌّ في حضرة الغياب السادس عشر، بقلم: غدير حميدان الزبون

حيٌّ في حضرة الغياب السادس عشر، بقلم: غدير حميدان الزبون

حوار الحالمين – في ذكرى رحيل محمود درويش 

-ماذا يفعل الغياب؟
-لا شيء، فقط يأخذُ من لا نَستطيع نِسيانهم، ويَقول لنَا تألّموا بشدة.
-هل أنت عاتب على الأصدقاء؟
-لا، فليرحلوا بصمت، أخبرتهم مرارا: عندما تريدون الرحيل ارحلوا لكنْ لا تعودوا أبدًا، كونوا للرحيل أوفياء… لعلَّنا نكونُ أيضًا لنسيانكم مخلصين.
-اسمع، عندي الحلّ، فقط تعلّم مني.
-ماذا بعد؟
-ضع برفقِ في يَدَيَّ قطعةً من الموسيقى للثلاثي جبران أو لمارسيل خليفة كأنكَ جدتي تناولني “العيديةَ” خفيةً عن أحفادها الماكرين؛ لتحفظ ماء وجهي من عيون الناظرين.
-هذا فقط!
-لا، لا، تريّث، لا تتعجّل.
وضعْ نسخةً من ديوان (لا تعتذر عمّا فعلت) في الحقيبة؛ فمنذ قابلتُ (أشعار درويش) وأنا أتمنى أن أصحبه في السَّفر وهو يؤجّل ويماطل معتذرًا.
وضعْ في الكتاب صورة (وطني) كما أتخيلها… وكما تخيّلها درويش في حروفه…لبلادنا، وَهِيَ القريبةُ من كلام اللهِ، سَقْفٌ من سحابْ. لبلادنا، وهي البعيدةُ عن صفاتِ الاسمِ خارطةٌ الغيابْ. لبلادنا، وهي الصغيرة مثل حبّة سُمْسُمٍ أُفُقٌ سماويٌّ… وهاويةٌ خفيَّةْ لبلادنا، وهي الفقيرةُ مثل أَجنحة القَطاَ، كُتُبٌ مُقَدَّسَةٌ… وجرحٌ في الهويّةْ”.
واطلب مني الرحيلَ لأرحل.
-أرى السماء هناك في متناولِ الأيدي.
ويحملني جناح حمامة بيضاء صوْب
طفولة أخرى. ولم أحلمْ بأنّي كنت أحلم. كلٌ شيء واقعيٌ. كنْت أعلم أنّني ألْقي بنفسي جانبا“وأطير.
-هل المستقبلُ نرجسيّ؟
-الشقاء الكامل أن يكون حاضرنا أفضل من غدنا…
لا بأس من أن يكون ماضينا أفضل من حاضرنا… ولكنّ الشقاء الكامل أن يكون حاضرُنا أفضل من غدنا.
قلت في سِرّي: بلادنا تتّسع وتتّسع وتتّسع كصدر المسيح يغسل أقدام التلاميذ في لقائهم الأخير!
-وقلت له مرة غاضباً كيف تحيا غداً… قال لا شأن لي بغدي؛ إنّه فكرة لا تراودني، وأنا هكذا، هكذا لن يغيرني أي شيء كما لم أغير أنا أي شيء، فلا تحجب الشمس عني…فقلت له: لست إسكندر المتعالي ولست ديوجين فقال: ولكنْ في اللامبالاة فلسفةً، إنّها صفة من صفات الأمل.
-لعلّك يا درويش، قد وقعت في عشق مدينة، لقد ذبنا وأسكرَتنا خمرة الصنم الحجري المضطرب بالازدحام والازدواج وبالغياب وبالمباني والضجيج المُحبَّب!
-يا سيدي يا (محمود درويش)، كيف عرفتَ كل هذا؟ وكيف عرفتَ كلّ هذا وتحمّلتَ أنْ تعرفه؟!
كانت القرية في تلك الليلة تُعِدّ الخبز بالزّعتر، وكانت ليلة ربيع ثقيلة، غير أنّ النجوم كانت تلمع، و(البروة) تصدح بالأسرار كأنها طرفٌ في كل الحَكايا منذ (آدم): الإضاءة الخافتة، ورائحة اشتعال الطابون، وشبح ابتسامة ساخرة يكافح كي يحرك شَفَته العليا في ركن فمه الأيمن قليلا كي يخرج للهواء المشبع بالدخان وصوت (الصرخة الأولى لدرويش) …
البحث عن المعنى -ربما- لعنتُكَ الطويلة ما دمتَ خُلقتَ بشريًّا، حتى الذين ادَّعوا عبثية الحياة وخُلُوّها من المعنى، لم يقولوا ما قالوا إلا بعد أن بحثوا أولا عن المعنى ولم يجدوه… اللامعنى معنىً في ذاته.
ربّما الابتسامة الساخرة تخرج إلى الغرفة المظلمة بعد عناء طويل ومخاض مؤلم.
-ها هو القدر يؤرّخ لميلاد الشاعر الإنسان.
-الإنسان! آهٍ ثمّ آهٍ، هي رمية النرد التعيسة وغير الموفقة في “دور الطاولة” اللامحدود واللامتناهي، والمُسمَّى: الكون؟
-إذن، أنت من هناك. ولكنْ لمَ كلّ هذا الجزع؟
ما نفع النجوم إذا لم تمنحنا الأحلام إذَن؟
-أَنا لاعب النَرْدِ، أَربح حيناً وأَخسر حيناً. أَنا مثلكمْ أَو أَقلُّ قليلاً…
وُلدتُ إلى جانب البئرِ، والشجراتِ الثلاثِ الوحيدات كالراهباتْ. وُلدتُ بلا زَفّةٍ وبلا قابلةْ. وسُمِّيتُ باسمي مُصَادَفَةً. وانتميتُ إلى عائلةْ مصادفَةً، ووَرِثْتُ ملامحها والصفاتْ وأَمراضها:
أَولاً – خَلَلاً في شرايينها وضغطَ دمٍ مرتفعْ
ثانياً – خجلاً في مخاطبة الأمِّ والأَبِ والجدَّة – الشجرةْ
ثالثاً – أَملاً في الشفاء من الانفلونزا بفنجان بابونجٍ ساخنٍ
رابعاً – كسلاً في الحديث عن الظبي والقُبَّرة
خامساً – مللاً في ليالي الشتاءْ
سادساً – فشلاً فادحاً في الغناءْ…
ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ كانت مصادفةً أَن أكونْ
ذَكَراً … ومصادفةً أَن أَرى قمراً.
وأي مصير ينتظر من قرروا الطيران بلا جناحين؟
-سأصير يوما طائرا، وأسلٌ من عدمي وجودي. كلٌما احترق الجناحانِ اقتربت من الحقيقةِ، وانبعثت من
الرمادِ. أنا حوار الحالمين، عزفْت عن جسدي وعن نفسي لأكْمِل رحلتي الأولي إلى المعنى.
-وأينَ مِنك عيون كلَيلةِ صيف منتعشة بالنجوم وبالحنين؟
كل هذه الكيلومترات بعيدًا بعيدا ولا زلت تشعر أنه لو نزلت إلى الشارع الآن لقابلها صدفة… رمية نرد أخيرة.
(البروة) تتّسع وتتّسع وتتّسع كصدر المسيح يغسل أقدام التلاميذ في لقائهم الأخير.
-العيون… إنّي رايت من العيون عجائب. وأراك أعجب من رأيت عيونه. ما كنت أحسب أنّ طرفا ناعس. قد يورّث العقل السليم جنونه.
-ألم تقلْ: أنا من هناك ولي ذكريات… وُلدت كما تُولد الناس… لي والدة وبيت كثير النوافذ…لي إخوة.. أصدقاء.. وسجن بنافذة باردة.. ولي موجة خطفتها النوارس.. لي مشهدي الخاص.. لي عشبة زائدة.. ولي قمر في أقاصي الكلام، ورزق الطيور، وزيتونة خالدة…
ذاك الشاعر المسافر المسكين لقد نجا بآخِر جمرة في روحه الثائرة، لقد نجا ونجا البريقُ في عينيه معه… لازالت عيونه تلمع.
لازال حُرًّا ويستطيع الطيران، لقد ظل مُتّقدًا بأعجوبه… لقد كاد يُطفَأ!
ماذا كانت حبيبته وأمّه لتقولا لو علمتا أنّه كاد يموت غير واقف؟!
-لتقولا: حمدا لله، ها هو قد نجا…
النردُ في اللعبةِ يخضعُ لقوانين الفيزياء لا الإحصاء… الأرقام على ظهره تمارسُ طقسًا إحصائيًّا، أما النردُ نفسه تُحرِّكهُ الجاذبية ومقاومة الهواء.
-هل المستقبَل نرجسيّ؟
غنَّى حنينه لأمّه وتابعَ سيرَهُ دونَ اكتراث بالسؤالِ وبالإجابة.
-هل المستقبلُ نرجسيّ؟
إنه يأتي سواءٌ أردنا أم لم نُرِد، ولا يمكن إيقافه، ويأتي كما شاءَ، سواءٌ عندَهُ أعجبَنا أنْ لم يعجبنا.
ويأتي متى شاء… ويرحل.
وقد يترك خلفهُ آلافًا من المتشبثين بالماضي، فلا يصحبهم معهُ، ولا يعود لهم عندما يقررون أنهم مستعدُّون الآن للتجربة… لا يعود.
وعليهم هم -إن أرادوا- أن يلحقوا به.
وهو مع كل هذا، يكون قد مرَّ عليهم ومكث فيهم ورحلَ عنهم دونَ أن يستأذنهم قادمًا أو مُوَدِّعًا!
-هل المستقبل نرجسيّ؟!
غنَّى وتابعَ سيرَهُ دونَ اكتراث بالسؤالِ وبالإجابة. -المستقبلُ لا الشاعر- 
-هل المستقبل نرجسيّ؟
ضَع برفقٍ في يدَيَّ البحرَ، وسُمرةً من جبين الفراشة، وسلامًا صغيرًا يُكتَبُ خلسةً على دفترٍ ويُترَكُ تحت غيمة، أو على كوبٍ ويُنسى على مقعدِ المكتبة، أو على ورقة شجر تحملها إلينا رياحُ الجنوب.
وضَعْ في الحقيبة نسخةً من ديوان (لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي) ليصحبنا (الأسطورة) مجدّدا، وضع صورة ل(وطني) بغيرِ حدود لكي نتذكر، ودعِ الخريطةً جانبًا، وذكِّرهم بأنَّ المستقبلَ نرجسيّ، لا يُنصفهم إطلاقًا، إنما هو فقط لا يكترث بنا وبهم.
ونحن معنا اليومَ البحر، والموسيقى، وعِشقَنا، وأسباب الحياة، ودعوات جدَّاتِنا، وصور الشهداء، وشجاعة الشعراء الحالمة، والغضب العميق، ونضمنُ حياد الدهر، وسننتصر.
-هل وصلنا إلى الختام؟
-بعض النهايات مُرَّة كالقهوة، ولكنّها تجعلك شخصًا مستيقظًا متنبهًا!
-لكنّك حيٌّ وللحلم بقيّة…
-ولا نتوب عن أحلامنا مهما تكرّر انكسارها.
-يا له من صباح جميل، ويا له من سفر طويل.
-ولكنْ… أنت جديرٌ بذلك.
-ليس من المألوف أن يُكرّم الأحياء، فالموتى لا يحضرون حفل تأبينهم، وما استمعت إليه اليوم هو أفضل تأبين أودّ أن أسمعه فيما بعد.
-هل ستمضي؟ ألن أراك؟
-وأنا إذا قررت ألّا أراك فصدّقني أنك لو جلست على رمشي.. فلن آراك.
-هو الفراق الأبدي إذن.
-لا، لا، سأعود من جديد، ولكنني تعبت الآن…
-إذن، سأعدّ لك الأرض كي تستريح…

  • – غدير حميدان الزبون – فلسطين 

شاهد أيضاً

طقاطقة يطلع القائم بأعمال رئيس سلطة المياه على أوضاع محافظة طولكرم

شفا – أطلع محافظ طولكرم مصطفى طقاطقة، القائم بأعمال رئيس سلطة المياه الفلسطينية زياد الفقهاء …