بين الحديدة وتل أبيب رسائل متبادلة بعد القصف، بقلم : نسيم قبها
على إثر ضرب تل أبيب فجر الجمعة الماضي بمسيرة يافا العابرة من اليمن ، عبرت المقاتلات الإسرائيلية المجال الجوي الإقليمي لمصر والسودان والسعودية مساءَ السبت، وشنت غارات عنيفة على مدينة الحديدة غرب اليمن، مستهدفة منشآت ومخازن نفط ومحطة كهرباء.
وتعد هذه المرة الأولى التي تقوم فيها إسرائيل بقصف مواقع باليمن بشكل مُعلن، بعد أن مثّل قصف الحوثيين لتل أبيب هجومًا غير مسبوق طال مركز إسرائيل الحيوي والاستراتيجي، وهو ما اعتُبِر تجاوزًا للخطوط الحمراء ولمعادلة الردع في الشرق الأوسط. حيث قال اللواء خالد غراب “نحن ضربنا قلب تل أبيب وكسرنا هيبة إسرائيل وقبتها الحديدية ومنظومة الرادارات والدفاع الجوي المتطورة، والقادم سيكون أكبر وأشد إيلامًا، ولدينا بنك أهداف داخل قلب العدو الإسرائيلي بشكل لا يتوقعه، مثلما لم يتوقع هجوم المسيرة اليمنية يافا”.
وقد جاء هذا التصعيد الجديد الذي ينذر بتدحرج الحرب في المنطقة عشية زيارة نتنياهو إلى واشنطن، التي تشهد صراعًا حادًا بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وتشهد اضطرابات داخل الحزب الديمقراطي تم حسمها باستبعاد بايدن عن سباق الرئاسة بعد فشله في المناظرة ، وعقب محاولة الاغتيال الفاشلة التي استثمرها ترمب وأكسبته مزيدًا من التأييد.
وجاء التصعيد أيضًا في أجواء عسكرية ساخنة تكبَّدَ فيها الكيانُ المحتلُ خسائرَ جسيمةً في غزة وجبهة الشمال الفلسطيني المحتل، قابلها الكيان الهمجي بمجازر وحشية في غزة للتغطية على خسائره وفشله في تحقيق أهدافه. كما جاء هذا التصعيد في ظل انقسامات داخلية عميقة بين القوى السياسية الصهيونية، وفي ظل ضغوط داخلية لإتمام صفقة التبادل ومقترح الرئيس الأميركي جو بايدن في 31 أيار/مايو الذي رحبت به حماس. ومن تلك الضغوط رفع وتيرة الاحتجاجات والمطالبات باستقالة الحكومة، وإطلاق وزير الدفاع غالنت تصريحًا عقب مكالمته الهاتفية مع وزير الدفاع الأميركي مؤخرًا، يحدد فيه أسبوعين لإبرام الصفقة التي قال إنها نضجت، مشيرًا إلى أنه “لا ينبغي لمحوري فيلادلفيا ونتسريم أن يفجرا صفقة التبادل”، وذلك ردًا على تعنت نتنياهو وقوله: “لن نسمح بتهريب الأسلحة إلى حماس من مصر، أولًا وقبل كل شيء من خلال السيطرة الإسرائيلية على ممر فيلادلفيا ومعبر رفح”، ورفضه عودة سكان شمال القطاع إلى منازلهم بحجة منع عودة المسلحين والعتاد إلى تلك المنطقة، حيث أبلغ نتنياهو أعضاء الفريق المفاوض أنه متمسك بمطلب منع عودة المسلحين لشمال القطاع، وهو الشرط الذي يتمترس خلفه لعرقلة صفقة التبادل، والتي يأمل بايدن من خلالها تحقيق مكسب انتخابي وسد الثغرة التي ينفذ منها نتنياهو إلى المزايدات الانتخابية الأميركية دعمًا لترمب.
وبالإضافة إلى ضغوط المؤسسات الأمنية الإسرائيلية التي اتهمها نتنياهو بـ”العمل على فرض مخطط بايدن عليه”، فإن هناك ضغوطًا دولية على نتنياهو وحكومته لإرغامهم على قبول صفقة التبادل، وخفض التصعيد في الضفة الغربية والمنطقة، وإرغامهم على ترتيبات اليوم التالي للحرب، والتي تُقَوِّضُ مشروع التهجير وتربط بين دخول قوات عربية إلى قطاع غزة وبين مشاركة السلطة الفلسطينية التي يرفض نتنياهو عودتها إلى القطاع؛ لمنع اتصاله بالضفة الغربية وإقامة دولة فلسطينية على أساس حل الدولتين ، وهو الترتيب الذي قبلت به دولة الإمارات على لسان لانا نسيبة مساعدة وزير الخارجية الإماراتي للشؤون السياسية، وهي الخطوة التي تعتبر خدمة للكيان المحتل لمعالجة افتقاره إلى التخطيط الاستراتيجي وخلو حربه الانتقامية من أي إنجاز سوى المذابح الجماعية.
ومن الضغوط الدولية على نتنياهو وفريقه المتطرف اعتراف خمسِ دول، هي النرويج وأيرلندا وإسبانيا وسلوفينيا وأرمينيا، خلال الأسابيع الأخيرة بالدولة الفلسطينية، والفتوى الاستشارية التي أصدرتها محكمة العدل الدولية يوم الجمعة، بأن للفلسطينيين “الحق في تقرير المصير، وأنه يجب إخلاء المستوطنات القائمة على الأراضي المحتلة”، وأن الاستيطان الإسرائيلي “ينتهك اتفاقية جنيف الرابعة”. وذلك لعرقلة مسار الضم والتهويد والتهجير الذي يمضي إليه اليمين الصهيوني الديني، ولتفريغ قرار الكنيست الإسرائيلي الأخير “رفض إقامة دولة فلسطينية في غرب نهر الأردن” من مضمونه.
ومن تلك الضغوط أيضًا تلويح محكمة الجنايات الدولية بإصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت. كما بحثَ مجلسُ الأمن القومي الأميركي يوم الأربعاء الماضي، فرض عقوبات على وزيري الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، والمالية بتسلئيل سموتريتش، بسبب تدهور الوضع الأمني في الضفة الغربية.
وفي ضوء هذه المعطيات، وبخاصة زيارة نتنياهو إلى أميركا، وتعنته في إبرام صفقة التبادل المتعثرة، يمكن القول بأن ما يجري من أحداث ومنها ضرب الحوثيين لتل أبيب، ومهاجمة الكيان الصهيوني لميناء الحديدة في اليمن، وتكتيكات حزب الله والحوثيين وحماس في تصعيد الهجمات، وتكذيب مزاعم نتنياهو بتقويض قدراتهم القتالية، من خلال ظهور الناطق باسم كتائب القسام (أبو عبيدة)، إنما يندرج كله ضمن الرسائل المتبادلة حيال أجندة نتنياهو الصهيونية.
والشخصية، وأجندة “المقاومة” وتوحيد الجبهات التي تقودها إيران، وترفض عزلها وإقصاءها من معادلة الشرق الأوسط الكبير، وتحاول انتزاع شرعية لنظام الحوثي عبر إشراكه في الحرب وتهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر، رغم تقاطع أجندتها في بعض جوانب هذه الحرب مع الموقف الأميركي الساعي إلى تقويض اليمين الديني الصهيوني في الكيان المحتل ونهجه، ذلك أن نتنياهو ربط مصيره ومستقبله السياسي باستمرار الحرب إلى الحد الذي حمل بايدن على القول بأن نتنياهو يريد “حربًا إلى الأبد”.
ولا يخفى أن نتنياهو عمل على إعاقة كل صفقات التبادل بذرائع مختلفة، بغية كسب الوقت الذي يأمل من خلاله تحقيق صورة نصر تسعفه لدى الرأي العام الإسرائيلي، وتبعد عنه شبح المحاكمة وتضمن له انتخابات آمنة، وتمكنه من ترميم صورة جيشه الذي تكسرت هيبته في الصمود والقتال من مسافة صفر، عبر قصفٍ وحشي لليمن.
ولبنان وغزة. وتُمكنه من ترميم صورته عبر زيارته لأميركا التي سيهرول فيها الحزبان المتنافسان لدعمه والترحيب به لدواعٍ انتخابية. ويتوسل من كسب الوقت أيضًا أن يصل إلى موعد الانتخابات الأميركية التي يأمل أن يمثل فيها فوز ترمب ذي القاعدة الإنجيلية الصهيونية رافعة له داخل الكيان المحتل وخارجه. بينما يتحوط لخسارة ترمب من خلال لعبة التصعيد ومواصلة التهجير في الضفة والقطاع ومنع قيام “دولة فلسطينية”.
وقد يرفع سقف الاشتباك مع حزب الله والحوثيين ويضع أميركا والغرب أمام خيار استقرار المنطقة مقابل استقرار سلطته. ولذلك يتصرف نتنياهو وفق المثل الإنجليزي “اللعب من أجل الإفلاس” من خلال المماطلة والتسريبات والتصعيد في غزة والمنطقة، وعرقلة صفقة التبادل، أو إبرامها على شروطه التي تضمن له استمرار الحرب وفرض وقائع أمنية جديدة في غزة والضفة الغربية، وتوفر له فرصة لاستعراض القوة قبيل زيارته للولايات المتحدة ومخاطبة أصحاب المصالح في الشرق الأوسط، كاستعراضه للقوة في الإغارة على ميناء الحديدة لاستعادة القيمة الاستراتيجية و”هيمنة الردع” المنهار أمام المنطقة والعالم بأسره.
كما ويحرص على تأخير صفقة التبادل ووقف الحرب إلى ما بعد الانتخابات الأميركية ليمنع الديموقراطيين من تحقيق مكسب انتخابي على حساب ترمب، وهو ما أفصح عنه بن غفير أمام الكنيست قبل أيام بقوله: إن إبرام الصفقة هي صفعة لترمب وإعطاء انتصار لبايدن.
وأما الموقف الأميركي، فلا يزال يزداد ضعفًا بشكل مضطرد مع اقتراب الانتخابات واحتدام التنافس على جلب الدعم من المانحين في الدولة العميقة وعلى أصوات اليهود والإنجيليين. ولذلك لا تتعامل أميركا بحزم مع هجمات حزب الله والحوثيين من أجل التأثير على الرأي العام الإسرائيلي بعدم جدوى الخيار العسكري الذي يصر عليه نتنياهو وائتلافه شديد التطرف. ولعل ضرب اليمن بهذه الوحشية كان رسالة لأميركا والتحالف الغربي الذي وصفه الكيان المحتل بالعاجز عن ردع الحوثيين، مفادها أن الخيار العسكري الصهيوني الذي يحاولون إيقافه لا يزال فاعلًا، وأن الخيار السياسي الذي يصرون عليه إنما هو استسلام لأهل المنطقة وتهديد للكيان الاستعماري الصهيوني وللمصالح الغربية.