رصاصة ترمب وتصفية الخصوم، قراءة في خلافات الدولة العميقة، بقلم : نسيم قبها
كان افتتاح مؤتمر الحزب الجمهوري في مدينة ميلواكي بشمال شرق الولايات المتحدة، والذي يتوقع فيه إقرار ترشيح الرئيس السابق دونالد ترمب ليخوض الحملة الانتخابية الرئاسية كممثل للحزب الجمهوري، كان افتتاحا ناريا ، بعد تعرض الأخير لعملية إطلاق نار من قناص، وهو يلقى خطابه لمؤيديه بتجمع انتخابي في بنسلفانيا جرحت أذنه اليمنى، فيما قتل شخص وجرح آخر من مناصريه. وفي حين أكد جهاز الخدمة السرية أنه تم تحييد القناص، شجب البيت الأبيض، ووزراء الدفاع والخارجية والعدل والداخلية، وعددٌ من السياسيين عملية إطلاق النار. ففي تصريح مقتضب قال الرئيس الأميركي جو بايدن: “ليس هناك مكان في الولايات المتحدة للعنف ولا يمكننا أبدًا أن نسمح بذلك”.
أما ترمب فقال من مستشفى بنسلفانيا حيث يتلقى العلاج: “أمر لا يصدق أن يحدث مثل هذا الفعل في بلدنا”، في حين أكدت إدارة حملته الانتخابية أنه سيحضر المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري الأسبوع المقبل، والذي يتوقع ترشيحه ببطاقة تمثيل الحزب الجمهوري.
وبالتدقيق بالتصريحات يتضح أن الديمقراطيين قد رفضوا استخدام لفظ “محاولة اغتيال”؛ لتفويت الفرصة على ترمب وإدارة حملته من استغلالها في التعبئة الانتخابية التي تدعي مناهضتها للدولة العميقة، وتأجيج مناصريه اليمينيين لزيادة دعمهم المادي لحملته الانتخابية، وهو الأمر الذي بدا من استغلال مناصري ترمب وأعضاء الجناح الموالي له في الحزب الجمهوري للحادثة، عبر تغريدات مرتكزة على صورة ترمب وهو مغطى بالدماء.
ومن استقراء التصريحات الصادرة عن قادة الحزب الديمقراطي، كالرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، ونانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب السابقة، ورئيس الأغلبية الديمقراطي في مجلس الشيوخ تشاك شومر، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، ووزير الدفاع لويد أوستن، ووزير العدل غارلاند أنه “لا مكان على الإطلاق للعنف السياسي في ديمقراطيّتنا ومجتمعنا”، يتضح أن ثمة خلافات قوية في الدولة العميقة قد تصل حد التصفيات الجسدية للخصوم، وهو أحد السيناريوهات التي كشفت عنها بعض الصحف الروسية قبل أيام، والتي ذكرت تصفية ترمب شخصيًا كسيناريو محتمل. ومن ثم فإن الديموقراطيين والداعمين لهم يحاولون توجيه الحادثة بتسليط الضوء على خيار العنف السياسي لإجهاضه؛ أي أنهم يريدون درء ردود فعل عنيفة من قبل ترمب وداعميه في حال إبعاده عن الرئاسة للانتخابات المقبلة، ولا سيما وأنهم لم ينفكوا عن إفزاع الشعب من عودة ترمب، وربط فوزه بتهديد الديمقراطية والقيم الليبرالية الأميركية.
وتأتي هذه الحادثة في ظل مواجهة الرئيس بايدن لمُساءَلات تتزايد في الدعوة لتنحيه عن حملة الانتخابات، وبخاصة بعد ظهوره المهتز في مناظرته مع ترمب الشهر الماضي، حيث حث عدد متزايد من النواب الديمقراطيين بايدن على التنحي، كما فعل بعض المتبرعين، ونجوم هوليوود، ومجموعات النشطاء ووسائل الإعلام. صحيح أن الحادثة جاءت بعد تصريح بايدن بأنه يجب وضع ترمب “كنقطة الهدف (bullseye)”ومنحت الجمهوريين فرصة لتوجيه الاتهام لحملة بايدن، إلا أن تنفيذها على يد ناخب جمهوري “كما أعلن”، قد ألقى بالغموض على الجهة المستفيدة منها، ومنح الديمقراطيين فرصة ملحة لصرف الأنظار عن فشل بايدن في مناظرته مع ترمب، وعن هفواته وعدم أهليته، وعن مواقفه السياسية، وهيأت المناخ داخل الحزب الديمقراطي لرص صفوفه المبعثرة بين الحرس القديم والتقدميين في وجه الجمهوريين، وإعادة التركيز الإعلامي على مسألة العنف السياسي في أميركا كعملية اقتحام مبنى الكابيتول. كما وفرت فرصة لحشد المجتمع خلف النظام الديمقراطي الليبرالي، الذي يعزل الشعب عن المشاركة في صنع القرار وفي نزاعات الدولة العميقة، وضبطه واحتواء حركة الشباب والطلاب الذين أظهرت احتجاجاتهم على سياسات بلادهم بشأن غزة نزعة تمرد وسخط على النظام السياسي، وبخاصة في أجواء الحملة الانتخابية الرئاسية والتشريعية، التي تشهد انقسامات أيديولوجية مجتمعية واقتصادية، وتشهد تضارب مصالح القوى الرأسمالية الداعمة وصناع القرار، والتي بدأت تنعكس في مخاوف شعبية من اندلاع أعمال عنف وشغب. ولذلك يأمل الديمقراطيون أيضًا أن يوظفوا هذه العملية لتسليط الضوء على انتشار الأسلحة النارية التي يطالبون بمنعها منذ إدارة أوباما، ويرفضها الجمهوريون تحت الغطاء الدستوري الذي يمنح المواطن الأميركي حق حمل السلاح للدفاع عن نفسه، والتي أكد بايدن أنه سيطالب بها في حال إعادة انتخابه في خطاب منذ أيام قليلة.
وكما هو واضح فإن قدرة بايدن والحزب الديمقراطي على تحقيق مكاسب انتخابية على مستوى الرئاسة ومجلسي الشيوخ والنواب أضحت موضع شك وقلق بعد المناظرة التي بدت وكأنها اختبارٌ مبكرٌ لبايدن من قبل الحزب الديمقراطي والداعمين له في ظل حظوظ ترمب الأوفر بالفوز في الانتخابات. ولا سيما وأن استراتيجية الجمهوريين الانتخابية تتمحور حول الصمت وترك الديمقراطيين ينتقدون بايدن وينهارون من الداخل، وتتمحور أيضًا على إفساح المجال للإعلام للتركيز على أخطاء بايدن وأهليته، والتندر بهفواته من أجل إسقاطه لدى الناخبين المستقلين، الذين يعطون ولاءهم بناءً على معطيات من أهمها الأمن الاقتصادي والمالي، والذين غالبًا ما يمثلون الكتلة الانتخابية المرجحة في ظل تعادل ثقل القواعد الانتخابية للحزبين المتنافسين. وبالتالي فإن بايدن والديمقراطيين في أمس الحاجة لتغيير السياق الإخباري وإبعاد الضوء عن انقساماتهم وعن أهلية بايدن للرئاسة.
وبهذا المعنى وبصرف النظر عن الجهة التي تقف وراء محاولة الاغتيال أو ما إذا كانت عملًا فرديًا جرى الاستثمار فيه من كلا الطرفين، فإن العملية تخدم بايدن والديمقراطيين بشدة، وإن كانت توفر لترمب مادة لحشد التأييد الانتخابي لصالحه. وبخاصة إذا أخذنا بالاعتبار انقسامات الديمقراطيين الداخلية حول استمرار بايدن في المعركة الانتخابية، والتي قد تضطر الديمقراطيين وداعميهم إلى إسقاط خيار بايدن كمرشح، وهو الأمر الذي يُتيح لترمب فوزًا سهلًا على نائبة الرئيس كمالا هاريس.
ومن هذه الزاوية فلا يستبعد أن يكون الديمقراطيون والداعمون لهم متورطين بمحاولة تغييب ترامب عن الانتخابات. وهذا لا يعني أن الديمقراطيين والداعمين لهم قد حسموا أمرهم بشأن ترشيح بايدن أو استبعاده؛ بل لا يزالون في قياس الأمور وتحديد ما إذا كان بايدن هو الرهان الأفضل لهزيمة ترامب ومن ثم استعمال بايدن كجسر لكمالا هاريس إلى البيت الأبيض باعتبار أنها أطوع في أيديهم منه. وهو ما يحاول بايدن فعله من خلال عدد من الخطابات والكلمات والتجمعات مؤكدًا بأن كبر سنه يمنحه “الحكمة”. سيما وأن بايدن لا يزال يحظى بدعم شخصيات رئيسية في الحزب، ولم يتمكن ترامب من استغلال الانشقاقات الديمقراطية وسخط الفئات العمرية على سياساته تجاه غزة لتوسيع الفجوة بينه وبين بايدن في استطلاعات الرأي.
وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن الصراع بين الديمقراطيين والجمهوريين هو صراع رأسمالي نفعي مصلحي ، ولا يكاد يظهر فرق بين أجنداتهم السياسية، فقد لاحظنا أن من يسموْن بمعسكر اليسار في العالم الغربي كله ليسوا سوى وجهٍ آخر بشكل ما لليمين. وهم يتلاعبون بشعوبهم التي لا تملك سوى حق انتخاب مرشح القوى الرأسمالية، وليس لهم في الواقع شيئًا من الحكم الديموقراطي الفعلي. ولا أدل على ذلك من الانتخابات البرلمانية الأوروبية التي لم ولن تعبر عن إرادة الشعوب، حيث انتهت أصوات مئات الملايين من الناخبين إلى 6 رؤساء ليقرروا المناصب العليا في المؤسسات الأوروبية. وهو ما دعا رئيسة وزراء إيطاليا جيورجيا ميلوني إلى القول: إنه أمر “سريالي” أن يتم شغل المناصب العليا في الاتحاد الأوروبي “دون حتى التظاهر بمناقشة الإشارات التي يرسلها الناخبون”. وفي انتقاد واضح لحجة عدم نُضج الشعوب لتبرير تجاوز إرادتهم من قبل صناع القرار، قالت: “هناك من يجادل بأن المواطنين ليس لديهم ما يكفي من الحكمة لاتخاذ قرارات معينة، وأن الأوليغارشية هي الشكل الوحيد المقبول للديمقراطية، لكنني لا أتفق مع ذلك”.
إن الوجه الآخر للنظام الرأسمالي الديموقراطي القائم على مركزية رأس المال الأوليغارشية، هو الوجه الاستبدادي الذي تعبر عنه الأنظمة الحاكمة في بلاد العالم الثالث ، ما يعني أن العالم يواجه فشلًا حضاريًا بان عواره في غزة ، وسيبقى العالم في ورطة أخلاقية مادية ثقافية اجتماعية سياسية ما دامت الرأسمالية تحكم العالم المفعول به .