السرقة الموصوفة، بقلم : صبحة بغورة
عندما تتراقص خيالات الضلال أمام أعين لصوص الحضارات تلمع فكرة سرقة تاريخ الشعوب من خلال تشويه تراث وماضي الأمم وعبر محو المعالم الحضارية للدول كخطوة أولى وضرورية لسرقة جغرافية الأقاليم، ثم المضي في التمدد واحتلال المزيد من المساحات في الجهات الأربعة.
إن محاولات محو أثر الوجود الحياتي لقوم يعيشون في منطقة ما يمر في الفكر الاستعماري الحديث عبر التعتيم على مقومات الهوية بمعنى الإلغاء المقصود لأي ادعاء بإرث تاريخي لهم ،كما يمر عبر الاستباق المتعمد لإسقاط كل محاولة تسويق لأي تبرير يهدف لتثبيت الأصالة بدعوى التمسك بالأرض أو بزعم تأكيد الانتماء للإقليم.
لقد عرف تاريخ البشرية تنوعا كبيرا في إعمار الأرض وجهودا عظيمة تباينت في إعطاء الوجود الإنساني مظهرا حضاريا يمكن أن يسهم في إكساب المجتمع القوة والمنعة ، ولكن في الكثير من الأحوال لم تكن نظرة الشعوب إلى بعضها بريئة، فأحلام الانتشار والتمدد بقيت تداعب نفوس الطامعين في السلطة والهيمنة وظلت تمنيها بالمزيد من توسيع النفوذ فكان “صراع الحضارات “قاسيا ونتائجه مريرة، لقد مرّ هذا الصراع بمراحل متتابعة وعرف أحداثا مؤسفة لا يتمنى أحد ممن عاشها وعايشها أن يراها تتكرر ثانية ، ثم لانت الأمور مع تطور الفكر الإنساني والثقافة السياسية ورقي الوعي المجتمعي نحو ما يعرف بـ ” تنافس الحضارات” وتسابقها عمليا وتكنولوجيا، سباق لم يفسد للود ولا لإرادة الحياة قضية، فغلبت روح التعاون الدولي لاحقا على المناخ العام في صورة الدعوة لتقارب الحضارات، وحوار الثقافات ، وتسامح الديانات وكانت كلها دعوات ذات أبعاد إنسانية راقية وقيما سامية تجسد الرغبة الأكيدة لدى المجتمع الدولي لترسيخ حق الشعوب في العيش بسلام.
لكن سرعان ما سقط كل شيء في المياه الراكدة فأيقظت حركتها وحوشا كاد الزمن أن يهلكها ، وحينها وجد أصحاب الإرادات الطيبة أنفسهم كحمائم السلام تحوم تائهة وسط اسراب الصقور والنوارس الجارحة.
إنها إرادة الله تعالى أن يبقى الخير والشر في الحياة الدنيا يفعلان في يوميات البشر الامتحان والابتلاء، وتتعرض العديد من الشعوب العربية وغيرها حاليا إلى نفس السيناريو الذي عانى منه هنود الأباش وقبائل المجتمعات البدائية قديما مع بعض الاختلافات في عدة جزئيات حسب روح العصر، فالتحطيم التام لآثار الحضارات القديمة هو جريمة إنسانية لأنها تعني حرمان أجيال المستقبل من معرفة تاريخهم سوى أماني ،ولن يجدوا مع مرور الزمن لها أثرا ماديا ملموسا سوى بعض الصور التي سيصيبها التلف والتمزق ثم ستوجه لها بعد ذلك سهام الريبة في أصلها ورماح الشك الكبير في مصداقيتها وهذا ليس بالأمر العسير ولن يكون غريبا أن توصف لاحقا بالخدع الالكترونية إن سرقة ما مضى في تاريخ الأمة هي في حد ذاتها سرقة مستقبلها ذلك لأن الهدف هو إضعاف روح الانتماء إلى الأرض وإلى الجماعة بإثارة الفرقة والاغتراب حسب العرق والأصل ولون البشرة واللغة والعقيدة ، سرقة التاريخ تحطيم للنفوس وهدم لمشاعر التضحية والفداء، وهي في الوقت ذاته تغذية للاغتراب داخل البلاد، ودافعا للهجرة إلى حيث يكون العيش أسهل.
عندما يفقد المرء تراثه ويتيه عن تاريخه سيظل ضائعا في الزمن والمكان عن واقعه ، ولن تراه يقف مانعا أمام مؤامرات تفريغ وطنه وإحلال عنصر آخر فيه يدرك جيدا ماذا يفعل ، ويعلم كيف يحصل على ما يريد في أرض الأحلام الجديدة!
تمر عمليات سرقة تاريخ الشعوب والحدود الجغرافية للدول عبر القرصنة الثقافية تقوم بها عصابات خارجية تجند من أجل ذلك جماعات داخلية لنشر تزييف الحقائق والقيام بنهب الممتلكات وتهريب الآثار، إنها تشكيلات عصابية متشابكة المصالح ” الكليبتوقراطية ” حكم اللصوص الذي يستخدم الفاسدين في السلطة للاستيلاء على الثروة ومصادرة الأفكار وسرقة المعارف ونسبها للغير ثم تحريف التوجهات ، هي عصابات غرضها الأساسي هو الثراء المالي حتى لو كانت تعلم أنها تخدم بخيانتها لوطنها مؤامرات خارجية، عصابات لا تردعها قوانين ولا تمنعها حدود ولا يشكل تعدد الجنسيات فيها عائقا أمام خطورة نشاطها ، إنها عصابات تقوم بسرقة تضحيات الشعوب لإعادة كتابة التاريخ ولا يهمها ضياع حقوق الحضارات ،ولا تتوانى عن مصادرة الثقافة من أجل تزوير الجغرافيا لإعادة رسم الحدود وتقسيم الدول وإضعافها ، إن هذه السرقة الموصوفة هي السبيل الوحيد أمام عصابات تخشى على نفسها أن تنتهي من التاريخ.
هذا مصير حتمي للدول التي تقوم على يد برابرة وقتلة ووثنيين إنهم لا يطيقون صبرا أمام رؤية دول أخرى أصيلة تنهض على أسس من المبادئ السامية والقيم الراقية، والأمثلة على الانتحار في التاريخ من حولنا كثيرة.