المرحلة الثالثة.. مرحلة ما يُعرف بخفض التصعيد، بقلم : راسم عبيدات
نتنياهو أصر على الذهاب إلى معركة رفح على أمل أن “يأتي بالزير من البير”، أي أن يحقق أهداف حربه العدوانية على قطاع غزة، التي عجز عن تحقيقها في الشمال والوسط والجنوب، أي تحقيق الأهداف الاستراتيجية المتطرفة للحرب التي خرج إليها على قطاع غزة، القضاء على المقاومة الفلسطينية وفي القلب منها حركة حماس، واسقاط سلطة وحكم حماس والاستعاضة عنها بسلطة أجسام محلية (عشائر ومخاتير) غير مرتبطة بحماس والمقاومة، تنفذ مشاريع ومخططات الاحتلال، جربها في الضفة الغربية وفي جنوب لبنان عام 2000 ، ولم يكن مصيرها سوى الفشل الذريع، وكذلك أن يتمكن من استعادة أسراه تحت الضغط العسكري أو عبر عمليات خاصة دون اتفاق مع حماس والمقاومة، بعد أن يتمكن من أسر قادة المقاومة أو قتلهم، بما يرمم من صورته التي تتآكل، ليس فقط في نظر أهالي الأسرى والجمهور الإسرائيلي، بل والنخب العسكرية والأمنية والسياسية السابقة والحالية، التي باتت توجه اتهامات لنتنياهو بأنه يقود دولته نحو الكارثة وأن حكمه أسوأ وأفشل حكم عرفته دولة الاحتلال، وليصل الأمر إلی حد قول الجنرال المتقاعد اللواء إسحق بريك المسؤول السابق لشكاوي الجنود، بأن إسرائيل ستنتحر جماعياً مع نتنياهو وغالانت وهليفي، وبأن هذا الثلاثي عبارة عن مسامير صدئة مقطوعة الرؤوس في الجسد الإسرائيلي يصعب التخلص منها، وكذلك هناك إجماع في المؤسستين العسكرية والأمنية وقادة المعارضة والقيادات السابقة، بأن نتنياهو يقود هذه الحرب خدمة لمصالحه واغراضه السياسية والشخصية، ولمنع خسارته للشرعية البرلمانية، عبر تفجير حكومته من داخلها من قبل شركائه في الائتلاف الحكومي بن غفير وسموتريتش، اللذين باتا يمسكان بـ”عنق” قراراته السياسية، في ظل خوفه الدائم من أن انهيار حكومته من داخلها، يعني محاكمته وقضاء بقية عمره في السجن، ليس بالتهم المنظورة ضد أمام قضاء دولته (الرشوة وسوء الإئتمان وخيانة الأمانة)، بل تحميله المسؤولية الكبرى عن الفشل الأمني والاستخباري والهزيمة في السابع من أكتوبر، ولذلك ظل يحاول التملص من هذا المصير، بتوظيف شركائه لمهاجمة قادة الجيش واتهامهم بالمسؤولية عن الفشل، وأن ما يسميه النهج الانهزامي من قبل قادة المعارضة وقادة المؤسسة العسكرية، من شأنه عدم تحقيق أهداف الحرب.
المهم، نتنياهو قام بعمليته العسكرية في رفح، ولم تكن نتائجها بأفضل حال عن المعارك في بقية القطاع في الشمال والوسط والجنوب، بل كانت النتائج أكثر سوءاً، المزيد من الغوص في رمال ومستنقع قطاع غزة، وخسائر عسكرية بشرية ومعدات عسكرية أكبر، ولا نصر ولا صورة نصر ولا إنجازات عسكرية ولا ميدانية، ولا استعادة أسرى، ولا قضاء على بقية ألوية حماس، بل وجد أنها كانت قادرة على التكيف مع الأوضاع، وتعيد ترميم وبناء قوتها وقدراتها العسكرية والتسليحية وسيطرتها على المناطق التي يخليها الاحتلال، وأن تستعيض عن فقدانها لجزء من قوتها عبر تجنيد شبان وعناصر جدد، مع استمرار التدريبات وتصنيع السلاح والعتاد في ورش داخل القطاع.
تحت ضغط حالة التفكك والانهيار التي تشهدها المؤسسة العسكرية، والنقص في العنصر البشري، انفجرت مجموعة أزمات في وجه نتنياهو، لم تتمثل فقط بحل مجلس الحرب المصغر، الذي كان يمثل حكومة وحدة وطنية، وخروج غانتس وايزنكوت منه وتشكل تحالف من قادة الأحزاب المعارضة من ليبرمان ولبيد وساعر، والمطالبين برحيله وإجراء انتخابات مبكرة، وتصاعد مظاهرات أهالي الأسرى الملتقية بأهدافها مع تلك المعارضة، فهي لم تعد تطالب بأن تكون الأولوية فقط لاستعادة أبنائها الأٍسرى أحياء، بل رفع شعارات سياسية تطالب برحيل نتنياهو وتحميله المسؤولية المباشرة عن عدم استعادة أبنائهم الأسرى والتضحية بهم على مذبح مصالحه السياسية والشخصية.
نتنياهو الذي يخسر على جبهتي الشرعيتين السياسية والشعبية، باتت النيران تنتقل إلى داخل بيته الحكومي والشرعية البرلمانية، بعد قرار قضاة محكمة “العدل” العليا بالإجماع، بضرورة تجنيد اليهود الحريديم للخدمة العسكرية، ووقف تمويل المؤسسات والمعاهد والمدارس الدينية التي يرفض طلابها التجند في الجيش، وهذا من شأنه زعزعة استقرار حكومة نتنياهو، في ظل رفض حزبي “شاس” و”يهوديت هتوراة” لهذا القرار، الذي قد يفتح الباب لخروجهم من الائتلاف الحاكم وإسقاط حكومة نتنياهو المترنحة.
نتنياهو وقادة جيشه يقولون إنهم سينجزون أهداف حربهم في القطاع خلال مدة أقصاها أربعة أسابيع إلى ستة أسابيع، ومن ثم سينتقلون إلى المرحلة الثالثة، هذه المرحلة التي تعني الانسحاب من مراكز المدن والمخيمات إلى حدود قطاع غزة مع مصر ونحو شرق غزة المحاذي لمستوطنات الغلاف وخط “نتساريم” في وسط غزة الذي يفصل شمالها عن جنوبها، وبما يعني تقليل الاحتكاك مع السكان والمقاومة، وتوفير الفرصة لنقل جزء من القوات الى الجبهة الشمالية، من أجل توسيع دائرة الحرب على حزب الله ولبنان، تلك الحرب التي أعتقد أن إمكانيات توسعها في ظل سقوط مرحلة الحرب النفسية التي شاركت فيها قوى عربية واقليمية ودولية، من أجل الضغط على حزب الله لفك علاقة الجبهة الشمالية مع جبهة قطاع غزة قد فشلت، وكذلك توسعة الحرب تحتاج إلى قرار أمريكي غير موجود، وإلى جيش لديه الإمكانيات والقدرات على حسم تلك الحرب بشكل سريع، وهذا غير متوفر في ظل جيش يعاني من نقص في كادره البشري، فهو يحتاج إلى تجنيد ما بين 8–10 جنود فوراً، وإلى تجنيد 15 كتيبة جديدة على الأقل، وجيش مرهق يعاني من انخفاض روحه المعنوية وحالة اهتراء وتمرد واستقالات وتهرب من الخدمة ونقص في الذخائر والدعم اللوجستي، لا يمكن له تحمل خوض حرب واسعة أو شاملة، فقرار شن حرب على حزب الله محدودة أو واسعة أو شاملة، قد يتخذ ولكن ضبط ايقاعات هذه الحرب وعدم خروجها عن السيطرة ، وعدم معرفة الأطراف التي قد تشارك فيها، وما لها من تداعيات ليس على الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي، بلغة قادة عسكريين وأمنيين إسرائيليين (منهم يهود أولمرت، وايهود باراك رؤوساء وزراء سابقون، وجنرالات من أمثال غانتس واسحق بيرك)، يقولون إن جبهة إسرائيل الداخلية سيلحق بها ضرر غير مسبوق، يفوق ما لحق بها عشرات المرات في كل الحروب السابقة التي خاضتها إسرائيل، وستحتاج إلى سنوات للتعافي منها.
ليس هناك شيء اسمه المرحلة الثالثة من الحرب، بل العجز بالسير في العملية العسكرية بوتيرتها السابقة، حيث حرب الاستنزاف والخسائر المتصاعدة بشرياً ومادياً، ولذلك تم ابتداع هذه المفهوم لوقف النزيف في الخسائر ودفع الأثمان والأكلاف الباهظة، وهذا الشكل من الحرب الذي يركز على ضربات موضوعية ومحدودة باستهداف تجمعات وقواعد ومراكز للمقاومة وقادتها، هدفه تقليل الخسائر، والتهرب من الإقرار بالهزيمة أمام المقاومة، وأيضاً التهرب من قبول شروط المقاومة بالتوصل إلى اتفاق ينهي الحرب وينجز تبادل الأسرى، في البحث عن حالة لا اتفاق تقلل من حجم خسائره، بالخروج من مراكز المدن والمخيمات، بما يقلل من الاحتكاك، كما حصل في قرار الانسحاب من الشريط الحدودي من لبنان عام 2000.
الاحتلال يراهن على أن هذا الانكفاء قد يطيل حالة الجمود القائمة على بقاءه في القطاع، وهذا الوهم لا يعرف أن المقاومة ستستمر حتى طرد قوات الاحتلال إلى خارج قطاع غزة أو التسليم بشروط المقاومة لوقف الحرب نهائيا.
أمريكا وإسرائيل تروجان بأن تخفيض التصعيد على جبهات قطاع غزة سيؤدي إلى تخفيض التصعيد على جبهة الإسناد في الشمال، وبما يسمح بعودة سكان المستوطنات الشمالية. والسؤال المطروح والمهم: إذا كانت جبهة الشمال قد فتحت لتسريع وقف إطلاق النار على القطاع وإنهاء الحرب، فهل تخفيض التصعيد سيخدم هذا الهدف أم أنه سيمنح إسرائيل الفرصة للتملص من تنفيذ الاتفاق؟
في اعتقادي أن هدف تخفيض التصعيد، هو أمريكي- إسرائيلي، للتهرب من استحقاق اتفاق يؤدي لوقف الحرب، ولذلك لا أعتقد أن محور المقاومة وفي مقدمته حزب الله سيكون معنيا بهذا المخطط والمشروع.