” الشهيد الحي محمود أبو الهيجا” بقلم : د. تهاني رفعت بشارات
في ظلِّ السَّماءِ الداكنة وفي ليلةٍ تلبَّدت فيها الأجواء بالترقُّب، تحوَّلت شوارع جنين وأزقة مخيمها الباسل إلى ميادينِ حربٍ ضارية. اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي المدينة كأنها عاصفةٌ هوجاء، مزقوا هدأة الليل بصرخات الرصاص وقنابل الدخان. كانت تلك الليلة ليلةً غاب فيها القمر وخفتت فيها النجوم، وامتلأت السماءُ بسحبِ الحقدِ الأسود.
في وسط هذه العاصفة، سقطَ الشهيد محمود أبو الهيجا برصاصِ الغدر وهو في بيته، على سريره، حيث كان يتأمَّل الحياةَ في هدوءٍ وسكينة. في لحظةٍ جردت الإنسان من إنسانيته، نصبَ القناصة على أسطح المنازل، يترقبون الفرائس بعينٍ لا تعرف الرحمة، وبقلبٍ لا يخفق إلا بنبضِ الكراهية. بدأوا بإطلاق النار بشكل عشوائي، كأنهم وحوشٌ جائعة تبحث عن ضحاياها.
أصيب محمود بعدة رصاصاتٍ غادرة، وبدأ ينزف دمه الطاهر كأنه نهرُ حريةٍ يسيل أمام عيني أمِّه وأبيه. كانت عينا الأم تترقبان نجدةً تأتي من بعيد، وكانت يدا الأب ترتعشان حزناً وعجزاً. لكنَّ قلوبهم المكلومة لم تجد سوى الصبر والصلاة، لأن الاحتلال منع سيارة الإسعاف من الوصول إليه. ظلَّ ينزف وينزف، وأمواج الألم تتلاطم في صدره، حتى صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها.
عرفتهُ في سنواته الأولى كمعلمةٍ له في المرحلة الابتدائية، كان محمودُ هادئاً كنسمة صباحٍ في يوم ربيعي، يُشعُّ بهدوءٍ يُلهمُ الأملَ في نفوس من حوله. كان متميزاً كالنجمة بين أقرانه، محبوباً كأنه زهرة في بستان قلوبِ زملائه، وخجولاً كطائر صغير يخشى أن يُزعج الكونَ بصوته. كانت أيامنا معه مليئةً بالفرح والأمل، وكنت أرى فيه مستقبلاً مشرقاً كالشمس التي تُشرق بعد ليلٍ طويل.
لم يكن محمود مجرد تلميذٍ في فصلي، بل كان مثالاً للحلم الفلسطيني، ذلك الحلم الذي لم ينكسر رغم سنوات الظلم والقهر. لن أنسى أبداً لمعة عيون والدته عندما كانت تأتي للسؤال عنه، تلك اللمعة التي كانت تعكس حباً كبيراً وأملاً بمستقبلٍ أفضل. كان والده يقف بجانبها، ينظر بفخرٍ واعتزازٍ إلى ابنه، كأنه يقول للعالم: “هذا ابني، هذا أملي ومستقبلي”.
رحمك الله يا محمود، وألهم أهلك الصبر على فراقك. لقد غادرتَ جسداً، ولكنَّك باقٍ في قلوبنا كنبضٍ حيٍّ لا يموت. ستظلُّ ذكراك تتردد في أروقةِ الذاكرة، تُحيي فينا معنى الحرية والتضحية. الشهيد الحي محمود، ستظلُّ في ذاكرةِ الزمن، تُذكرنا دوماً بأن الحق لا يموت، وأن أرواح الشهداء تظلُّ تُنير لنا الطريق نحو الحرية والاستقلال.