النكبة حكاية العائدين، بقلم : عمار جبر
ما أن حدثت النكبة في العام 1948 وتشردت الأسر الفلسطينية وتشتت شملها في شتى بقاع المعمورة، وأتت النكبة برياح التغيير الكارثية على الشعب الفلسطيني، ليتحول من شعب متعلم ومنتج ومالك للأرض والأدوات اللازمة لتحويلها إلى جنان خصبة، إلى لاجئ يحتاج إلى معونة يومية- الأمر الذي لم يطل كثيرا- وطال التغيير أوجه الحياة كلها في فلسطين، تغيير ديموغرافي وجيوسياسي وتجاري وتغول وصولا إلى السوسيولوجيا في فلسطين، فالانتقال من الحديث عن الحياة اليومية للفلسطينيين مثل الزراعة ومواسم الحصاد وحفلات الزواج والمآتم والمواسم الشعبية الفلسطينية (موسم النبي موسى، موسم النبي صالح، موسم النبي روبين، موسم المنطار، موسم دير الروم) والتي اتخذت طابعا زمنيا، نهاية شهر آذار وحتى نهاية شهر نيسان، وجغرافيا يعقد في مدن مخصصة لكل موسم، وكانت هذه المواسم الشعبية الفلسطينية تعقد بالنداء المباشر بعد صلاة الجمعة لتصل مواكب المحتفلين من مختلف ربوع فلسطين إلى أماكن الالتقاء (المقامات)، وكان الهدف الأساس لمنشإ هذه المواسم هو إظهار الاستعداد في مواسم زيارة الفرنجة حتى لا يقوموا بأي اعتداءات على بيت المقدس وما حولها، واستمر فيما بعد كتقليد موروث في ربوع فلسطين، وأعيد إحياؤه مع عودة السلطة الوطنية الفلسطينية عام ١٩٩٦ وتوقفت المواسم وخاصة موسم النبي صالح في العام ٢٠٠٠ مع الانتفاضة الثانية، إلى الحديث عن واقع اللجوء المر والحياة اليومية للاجئين.
إن الحديث عن الآثار السلبية للنكبة، يمتد إلى جميع نواحي الحياة في فلسطين، فهي التي حولت الفلسطيني الذي يملك الأرض إلى لاجئ خارج بلده لا يملك قوت يومه ويعيش في مخيمات إيواء تديرها الأمم المتحدة بصعوبة بالغة، لتتشكل لهذه الغاية وكالة الأونروا، لإدارة هذه المخيمات وإدامتها ومحاولة تحويل الأماكن التي تم اختيارها لتشكل مخيمات إيواء لهم ﻷماكن قابلة للعيش، فالعديد من المخيمات كانت في أماكن لا تصلح للسكن أو أراض زراعية لا يمكن البناء عليها فبدأت تتشكل مخيمات أطلق عليها مخيمات الصفيح- الزينكو-، والتي شكلت نواة المجتمع الفلسطيني خارج وطنه السليب، وتسببت بظهور أنماط اجتماعية لم يألفها الفرد الفلسطيني، فالتحول من الأنماط الثلاثة الرئيسة التي ينتمي لها الفرد الفلسطيني، حياة الريف (الأرض والفلاحة والحصاد. إلخ) والحضر (التجارة والنهوض العمراني والتعليم… إلخ) والبداوة (الرعي والبحث عن الماء والتنقل المستمر… إلخ) وذوبانها في نمط اجتماعي واحد وهو (اللاجئ) الذي تتمحور حياته حول تحسين مكان السكن والبحث عن عمل في المجتمعات المضيفة والذي تطور فيما بعد إلى رحلة لجوء جديدة إلى دولة أخرى بعد انعدام فرص العمل، والاعتماد كليا على الأونروا كمصدر للمؤن الغذائية والطبية -خصوصا- في المدة الأولى من نشوء هذه المخيمات، وبذل المحاولات المستميتة خلال السنوات الأولى التي تلت النكبة للاعتماد على النفس وخلق البيئة الآمنة للأسرة حتى تستقيم معيشتهم.
وبالحديث عن الآثار السلبية للنكبة، يتوجب العمل وبذل جهد كبير لدحض الرواية والادعاء الصهيوني بأن أسماء المدن والقرى والبلدات التي تم تغيير أسمائها، تعود حسب ادعائهم لأسماء توراتية تاريخية وأنهم قاموا بإعادتها الى أصلها أي أن الأسماء العربية هي المشتقة من العبرية وليس العكس! مثل (بئر السبع- بير شيفع ، لد- لود ) ولكن هذه الدعاية تتجاهل بشكل كلي أن هذه الأسماء تعود إلى العصر الكنعاني أو الإغريقي والروماني، وليست عبرانية -البتة- بالشكل الذي تطرحه الرواية الصهيونية، وينسف الادعاء السابق انعدام أي دليل ملموس حتى الآن على وجود حضارة يهودية في فلسطين، وبشكل أوسع أنهم وصلوا إلى أريحا بقيادة يشوع بن نون- يوشع بن نون- فالبعثات التنقيبية عاجزة عن الربط بين الرواية التوراتية الشهيرة (أن محاربي يشوع داروا بشكل يومي لمدة ٦ أيام حول أسوار مدينة أريحا يحملون تابوت العهد القديم وينفخون في أبواق من قرون الكباش)، وبين النتائج التي حصل عليها العديد من المنقبين الأجانب ومنهم (كاثرين كوين ، جيمس بريتشار) من جهة ومن علماء آثار إسرائيليين من جهة منهم (البروفيسور إسرائيل فنكلشتاين، البروفيسور زئيف هرتسوغ) والذين التقت نتائج أبحاثهم ودراستهم على نقطة مهمة جدا، وهي أن الرواية التوراتية لا أساس لها، وبأن جدران أريحا لم تتهدم كما ذكرت التوراة نتيجة النفخ في قرون الأكباش والصياح بشكل عال!،وبعيدا عن سذاجة هذا الادعاء فهو غير مقبول لدى العديد من الباحثين الذي ذكروا بأن أريحا لم تكن مأهولة بالسكان في تلك الفترة- القرن الثالث عشر ق م، ولا حاجة لتدمير غير المأهول أو احتلاله بل العبور من خلاله إذا افترضنا بعيش اليهود في فلسطين التاريخية، وإننا أمام عجز كل من يحاول التنقيب في فلسطين عن إثبات وجود تاريخ لليهود في هذه المنطقة، وأمام قصة دخول اليهود بقيادة بن نون إلى فلسطين عبر تدمير واحتلال أريحا، لنخلص أنها ادعاءات لا أساس له من الصحة، وحتى التسليم بمخطوطات أو لفائف قمرين وبأنها تتحدث عن طائفة يهودية (الأثينيين) والتي ظهرت- حسب الادعاءات- بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الأول الميلادي، والتي لا يوجد دليل على وجودها غير هذه الوثائق التي -بالأساس- يشكك الكثيرون في صحة نسبتها إليهم وبشكل مريب، وبعد عدة دراسات على هذه المخطوطات وجد أن ١٦ جزء منها هو مزور ومكتوب على جلد من الصنادل الجلدية التي عثر عليها في المواقع الرومانية وبتطبيق الحبر في العصر الحديث، وأكد صحة التزوير الرئيس التنفيذي لمتحف الكتاب المقدس في واشنطن هاري مارغريف، والذي ذكر “إننا ضحايا التحريف، ضحايا الاحتيال”.
من هنا نستطيع التأكد من أن الهجمة الصهيونية على الموروث الحضاري والوجداني والحضاري للإنسان الفلسطيني، هو ردة فعل على عجز الاحتلال وكل أدواته عن دعم فرضية الوجود اليهودي في فلسطين التاريخية بأي شكل من الأشكال، وعجز كامل على إيجاد أرضية أمنة لعيش مستوطنيه وإقناعهم بأنها أرض الميعاد، وكل محاولات العبرنة والأسرلة تصطدم بعدم نجاعة خططه للترحيل القسري والاعتقالات والتخويف والاستيلاء على الأراضي، فكلها تصطدم في العصر الحديث بتجاوز الفلسطيني حاجز الخوف، وصموده العنيد على أرضه وأبلغ مثال ما يحدث إلى الآن في قطاع غزة، الذي يتعرض ﻷبشع حرب احتلالية وإبادة جماعية فاق عدد ضحاياها الأربعة والثلاثين ألف شهيد، والآن وبعد وستة وسبعون عاما على الجريمة التي تتكرر بشكل يومي وبدون توقف منذ الخامس عشر من أيار عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين ولغاية اليوم، جريمة لم تتغير ملامحها تغيرت الأدوات وتطورت، فبدلا من العتاد المسروق من معسكرات الجيش الإنكليزي، تحولت إلى أسلحة متطورة مدعومة من الولايات المتحدة ومنها القنابل التي وصلت زنتها ألفي كيلو، وقنابل ذكية ودعم عسكري غير مشروط، يصنع شعبنا العربي الفلسطيني أسطورة صمود وعنفوان تسجل في سجل النضالي الخالد، والذي سيستمر بصموده على أرضه ومكافحته بكافة الوسائل هذا الاحتلال الى تحرير أرضه بشكل كامل واقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.