مخيم “نور شمس” وإعادة تدوير الموت عنقاء ستنهض من رمادها، بقلم : سماح خليفة
ماذا يعني المخيم؟ أشخاصًا فقدوا أرضهم، وهُجّروا من أوطانهم، ولجؤوا قسرًا إلى أماكن أخرى، وأقاموا في تجمعات. ولماذا تغيظ المخيمات الاحتلال لهذه الدرجة؟ لماذا شبح المخيم يتلبّس رؤوسهم، ويعصف بأفكارهم؟ لماذا لا يغمض لهم جفن إلا واقتحموا المخيم بين الفينة والأخرى، وأرّقوا ساكنيه كلما هدؤوا طرفة عين، وقتلوا أصحابه، واعتقلوا رجاله، ودمّروا بنيته التحتية…؟
في مفهوم المحتل: المخيم هو مقبرة جماعية، هو أشخاص ميتون، أبيدوا وعذّبوا وهجروا حفاة عراة جياعًا، لا مقومات للحياة، وهذه هي الصورة التي يحرص على رؤيتها المحتل كلما دخل المخيم، أمواتًا، أشباحًا، ظلالًا، ولكن ما يجده في كل مرة عكس ذلك تمامًا.
في مفهوم الفلسطيني: المخيم يعني هناك تطلّع لعودة المكان، عودة الأرض، عودة الوطن، هو حياة ولدت من رحم الموت، المخيم ينبض بالحياة، المخيم أشخاص بعثوا من رماد الفناء، إذن هم أساطير، وعلى المحتل القضاء على تلك الأساطير بقدراتها الخارقة، فكيف يعيدون تدوير موت الفلسطيني المهجّر، النازح؛ ليلقى موتًا بمواصفات أعمق وأكثر جودة؟
مخيم “نور شمس”، اسم لا يرتقي لرتبة الموت المدوّر، فهو يحمل أسطورة المعتقل “نور شمس” الذي استخدمه الإنجليز منذ احتلالهم لفلسطين عام 1919م؛ لسجن أصحاب الأحكام القاسية ممن حكم عليهم بالإعدام أو السجن مدى الحياة. “إعدام”، “سجن مدى الحياة”، بلغة أخرى هو الموت الذي ظل يلد الحياة طيلة مئة وخمس سنوات، كانت احتمالية موته عام 1951م قائمة، فإذا لم ينل منهم الرصاص، ولم تنل منهم الشمس الحارقة، ستنال منهم العاصفة الثلجية التي أطاحت بمخيم اللاجئين في سهل جنزور بالقرب من مدينة جنين، لكن ذلك لم يحدث، إنما ولدت حياة جديدة من رحم الموت الذي أعياه صدورهم، أنفسهم، عندما نقلتهم وكالة الغوث إلى شرق طولكرم في مخيم جعل اسمه وشمًا في خدّ الشمس؛ ليرشف نورها، فكان “نور شمس”.
من هنا فإن المخيم هو تدوير للحياة في لغة الفلسطيني وفكره، فهل تكفي تلك المدة التي طرّزت على جبينه؛ لتخلق أسطورة تؤرق المحتل ليل نهار؟ هل تكفي مئة وخمس سنوات لتولد عنقاء جديدة تحلّق في سماء المحتل؛ فتنفث ناره في صدره؟
”نور شمس” بوجهه المشرق المكشوف طوال النهار لأشعة الشمس، تلك التي ظنها المحتل تلسع أجساد المعتقلين في موسم الحر، لكنه لم يعلم أنها كانت تعيد خلقهم من جديد، تعيد تدوير الحياة في أرواحهم من جديد.
هل أثلجت مجزرة “نور شمس” صدور وحوش الاحتلال المتكالبة على أجساد أبطاله؟ هل استطاع أن يجتثّ قلب المخيم النابض، الذي أزعج أحلامهم بكوابيس الصمود والحياة؟
مجزرة “نور شمس” ليست إلا جزءًا من عملية كبيرة في الضفة تسير على قدم وساق، هي إعادة تدوير لعملية “السور الواقي” في 2002م، لكن بتقنيات أعلى؛ لتنتج موتًا بجودة أعلى من سابقتها، بفنّيّة وحرفيّة أعلى في القتل والتنكيل والتدمير، هي نموذج لما حدث في غزة وما زال يحدث بوحشيّته الكبرى، من قتل، واعتقال، واحتجاز جثامين، وصواريخ “أنجيرا” تفجر قلب كل بيت في المخيم احتضن أبناءه وكلماتهم وابتساماتهم وأحلامهم وذاكرتهم العصيّة على المسح.
لا رؤية واضحة لدى إسرائيل في استراتيجياتها، فهي تتخبط في حربها على غزة، وفي اجتياح المخيمات، وما حدث في مخيم نور شمس وما سبقه من اجتياح لمخيم جنين في 3 تموز الماضي ليس إلا دليلًا على فشل إسرائيل في السيطرة على روح شعب لا تقهر ولا تموت. حرب دمار شامل تهدف لاجتثاث المخيّمَين ضمن مخطط لاقتلاع معظم مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية كما في قطاع غزة، لكن هيهات لهم! لا يمكن لمحتل لا يحمل ذاكرة في الأرض التي يطؤها، أن ينجح في قتل ذاكرة مخيم تجذّرت في أعماق الزمن، ولا حتى صهرها، أو تدويرها، أو هندستها، أو اجتثاثها!