إسرائيل بين حرب غزة والرد على إيران.. أولوية أم تكتيك مدروس؟ بقلم : سماح خليفة
بالرغم من أنه لا خلاف بين أصحاب القرار في إسرائيل حول موضوع إيران، كعدو يهدد أمن ووجود إسرائيل بالدرجة الأولى، مع وجود خلافات إسرائيلية داخلية حول الشأن الفلسطيني والحرب على غزة، إلا أن إسرائيل ضبطت نفسها عن الرد على هجوم إيران الأخير، الذي ترجم تهديد الأخيرة لدولة الاحتلال بضربة صاروخية، ردًا على استهدافها مبنى تابعا لسفارتها في دمشق قبل ذلك بأيام، والذي ذهب ضحيته عدد من قياداتها العسكرية، الأمر الذي عدّته طهران استهدافًا مباشراً للسيادة الإيرانية، وتوعّدت بالرد عليه.
ومن جانبها، أعادت إسرائيل حساباتها بعد الحدث الأخير من الردّ الإيراني، لتحسم الأولوية والتركيز ما بين إيران وغزة، وحسم مصالحها حالياً في إعادة المخطوفين وإضعاف قدرة حماس العسكرية وتفكيكها، مع إبقاء الشّرَك عالقًا في ضفة إيران، والذي تمثل بضربة “خفيفة” كرد تكتيكي مدروس، بمسيرات، يشكك حتى اللحظة، في نقطة انطلاقها.
إسرائيل تعلم جيدًا حقيقة أن الجناح العسكري (حماس) في غزة، يستمد قراراته من قلب غزة، لا من خارجها، على الرغم من وجود جناحها السياسي في الخارج، وعلى الرغم من أن الإمدادات العسكرية الإيرانية التي استطاعت حماس خلال الفترة السابقة تقوية شوكتها من خلالها، وإعداد العدّة لطوفان الأقصى.
لماذا إذن إسرائيل تشغل نفسها بإيران، في الوقت الذي لم تستطع فيه إخضاع حماس أو القضاء عليها، ولا حتى إعادة الرهائن، فضلًا عن السيناريو المفضوح والمعدّ مسبقًا بين إيران وإسرائيل (ضربتني بضربك) ومَن مِن الطرفين سيكون له شرف الضربة الأخيرة ليحفظ ماء وجهه.
هذا التكتيك الذي ينتهجه نتنياهو ما هو إلا دِرعا واقيا له، لإشغال الشارع الإسرائيلي، ودرء الوقوع في هاوية الانتخابات أو الإقالة، وبالتالي إيهام المجتمع الإسرائيلي بوجود عدوّ خارجي يهدد أمن إسرائيل، وعليه العمل على وحدة الصف ونبذ المعارضة والتظاهرات ضد نتنياهو، الذي يعمل (كما أراد نتنياهو لواجهة المشهد أن تبدو) على حماية أمن إسرائيل ضد العدوان الإيراني الخارجي.
وعلى صعيد آخر يستفيد نتنياهو من التأخير في الردّ على إيران، حيث يعمل دبلوماسيًّا ويتواصل مع الدول لتجنيد المواقف الدّوليّة لصالحه، وكسب تعاطف العالم.
إيران من جانبها كذلك تستفيد من الحدث، فهي تعلن في حال ضربت إسرائيل فإنها ستفتح الملف النووي للمضي فيه. تكتيك مدروس من الجانبين، لحفظ مصالح الجانبين، وإبقاء الوسط المتابع، في الوقت ذاته، في حيرة وتخبط.
هذا المتغير المهم في المنطقة والذي حرف زاوية الرؤية قليلًا عن دائرة ركودها في غزة، فالموت والقتل والتنكيل دون القدرة على القضاء على حماس، وضع إسرائيل على المستوى الداخلي وعلى المستوى الخارجي الدولي، في حيز الركود على مستوى الأثر، “جعجة بلا طحين” لصالح إسرائيل في غزة يقوده إلى صرف الأنظار لبثّ الأمل في الحصول على طحين من سبيل آخر، عبر إيران.
مما سبق وعلى صعيد الردّ الإيراني كطرف في اللعبة، لم تكتفِ إيران بسردية “الصمت الإستراتيجي”، بل نفذت تهديدها بالرد المركب من الناحية الجغرافية، إذ شاركت ببعض تفاصيله أطراف أخرى غير إيران، وعسكريًا من حيث الأسلحة المستخدمة، فطهران وللمرة الأولى تستهدف بشكل رسمي ومعلَن عمق اسرائيل، وليس عبر الأطراف أو الأذرع المحسوبة عليها، بل إن الرد كان مركزًا ومحدودًا في ظل سعي الأخيرة لئلّا يتسبب بتصعيد كبير، أو اندلاع حرب موسعة قد تضعها في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية، وليس فقط دولة الاحتلال.
أما على صعيد المتابعين للحدث والباحثين المهتمين، فقد تباينت آراؤهم في توصيف ما حدث، وفي تقييم النتائج بين الجبهتين، الإيرانية والإسرائيلية، من حيث عدد المسيّرات والصواريخ المستخدمة، وما وصل منها بعد تخطّي دفاعات الاحتلال ومن دعمه، ومدى الأضرار المباشرة للقصف، والآثار غير المباشرة، وكذلك معرفة موعد الرد ونوعيته وحدوده، وربما تفاصيل أخرى متعلقة به، والأسلحة المستخدمة، وغير ذلك الكثير.
ومع تفاوت زوايا الرؤية ومدى التوافق عليها، فإن أهم دلالات الضربة التي وجهتها إيران، على الساحة، أنها متغير جديد في معادلات المنطقة، وضفة “النجاة” الثانية بعد صدام، فهي المرة الأولى لاستهداف إيراني مباشر وبشكل رسمي وعلني لدولة الاحتلال، والمرة الأولى بشكل عام في المنطقة بعد الصواريخ التي كان أطلقها الرئيس العراقي صدام حسين عليها في سياق مختلف تمامًا.
وهو بهذا المعنى، سعي إيراني حثيث وجاد لاستعادة معادلة الردع والتوازن السابقة، التي حاول الاحتلال كسرها بعملية السفارة في دمشق.
وبالتالي، لم يعد قصف إسرائيل خطًّا أحمر، بل أمرًا يمكن أن يتكرر في سياقات وظروف محتملة في المستقبل القريب، أو المدى البعيد، وهذا أمر يغير الكثير من الحسابات والتوازنات في المنطقة، ويؤشر على مرحلة جديدة في المنطقة بقواعد اشتباك مختلفة، إذ انّ القاعدة التي تكسر مرة، يسهل كسرها مرة أخرى، ويمكن أن تتحول أو تنتج قواعد جديدة.
ويبقى الجزم حول رد الطرفين وتداعياته غير ممكن، ومعلقًا بمصلحة الطرفين والتوقيت الأنسب حول تحقيق هذه المصلحة، هل سترد إسرائيل على الرد الإيراني أم لا؟ وما شكل هذا الرد وقيمته وتفاصيله على الأرض؟ وهل سيتسبب ذلك بسلسلة من الردود التي يمكن أن تتحول لمواجهة شاملة، أم أن الأمر سيقف عند حدود الرد الإيراني بقناعة إسرائيلية و”ضغط” أميركي؟
شكل السيناريو القائم بين الطرفين، وضّحه، إلى حدّ ما، الطرف الإيراني من جهته عندما تحدث القائد العام للحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي عن معادلة جديدة حذر الاحتلال من اختبارها، مفادها: “إذا هاجم الكيان الصهيوني مصالحنا وممتلكاتنا وشخصياتنا ومواطنينا في أي لحظة، فسوف نقوم بهجوم مضاد عليه”، والأمر الموائم لذلك من الطرف الإسرائيلي، الصمت المصاحب للرد الأخير “الخفيف”، كإجراء احترازي، كي لا يجبر إيران على الردّ، ولا تجر المنطقة لحرب، إنما هو شدّ وإرخاء وفق الحاجة للإبقاء على المصالح في الداخل والخارج.
ومن الجانب الإيراني المتعلق بغزة، فهي ليست حاضرة بشكل مباشر في قلب دوافع الردّ الإيراني، على الرغم من تأثيرها في المنطقة وتحريك الردّ الفعلي الإسرائيلي، باستهداف المستشارين العسكريين الإيرانيين في سوريا، بسبب دورهم في دعم المقاومة الفلسطينية، وفق ما قال الاحتلال، وأكّدته كتائب القسام في بيان لها، فضلًا عن أن الاحتلال والولايات المتحدة الأميركية، ينظران للفعل الإيراني من زاوية الحرب في غزة، إذ طالما كان لطهران دور مهم في مراكمة القوة في القطاع، كما كان لعدد من القوى المحسوبة عليها في كل من لبنان واليمن والعراق، مساهمات في هذه الحرب دعمًا وإسنادًا لغزة، ولا ننسى حضور “وحدة الساحات” في الخطاب المؤسس لمعركة “طوفان الأقصى”، وحديثه عن حرب شاملة.
إن التراجع الملحوظ في العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة جوًا وبحرًا، وانحسار عملياتها بالتدرج الأخير بين أحياء رفح، سعى نتنياهو من خلاله لاستعادة الدعم الغربي، وتمكين فكرة المظلومية، وتحصيل مكاسب من واشنطن، التي بدورها مرتبطة بالسياق وظرف الحدث وتوقيته.
ومع ذلك كله لا يمكن التكهن بتأثير الحدث على رد الفعل الإسرائيلي في غزة بشكل خاص، والقضية الفلسطينية بشكل عام، إذا ما اتجهت الأمور للتصعيد الموسع، أو الحرب الشاملة، فذلك مرهون بنتائج هذه المواجهة المحتملة، وتداعياتها على الأطراف المنخرطة فيها، وعلى المنطقة ككلّ.
وعليه، فإنّ سيناريو “الشدّ والرخي” باستمرار الاستهداف، والاستهداف المقابل، قد يفيد غزة (مقاومة وشعبًا) بالتقاط أنفاسها، كما يمكن أن يضرّها حسب مآلات هذا السيناريو في نهاية المطاف، وكذلك حسب مدته وسقفه والأطراف المنخرطة.
وهكذا فإن نتنياهو يبقي الجبهات مفتوحة، باستمرار الحرب البرية في غزة مع اختلاف هندستها، وإبقاء الرد على إيران بين مدّ وجزر، وبالتالي إبقاء العالم بين داعم للكيان وناقم عليه، لكن في المقابل، فإن اكتفاء دولة الاحتلال بتلقّي الرد الإيراني وعدم الرد عليه، رغم محدودية آثاره المادية عليها، سيعني أن التأثير على غزة سيكون محدودًا وضئيلًا، بمعنى استمرار الحرب البرية الإسرائيلية، بما في ذلك احتمالات دخول رفح، إلا أن ذلك يبقى خيارًا غير مرجح بكل الأحوال، التصعيد المتدرج أو المنفلت، خروج الأمور عن السيطرة بالكامل، وتحولها لحرب إقليمية موسعة أو مواجهة شاملة، أو مساعي الاحتواء وضبط الأمور، وترابط هذه الأحداث بشكل كبير وملحوظ يعزز فكرة التأثير طويل المدى، وغير المباشر، لا سيما أن الأمر برمته متعلق بمعركة “طوفان الأقصى”، وما تسببت به من تطورات، وكلما طال الأثر وسيناريوهاته كلما استفاد نتنياهو لتجديد هندسة الوجه الي سيبقيه حاضرًا في مركب النجاة على المستوى الشخصي.