وبائيات الأمراض في سياق حرب غزة، بقلم : أ.د. أحمد عمرو
تمثل الحرب المستمر في قطاع غزة تحديات فريدة تتجاوز المخاوف العسكرية والأمنية المباشرة، بما في ذلك زيادة خطر تفشي الأمراض بسبب تعطل أو تدمير البنية التحتية للنظام الصحي، والظروف المعيشية المكتظة في مراكز الإيواء، ومحدودية الوصول إلى الرعاية الصحية. لذلك يعد فهم وبائيات الأمراض المحتملة في مثل هذه الظروف أمرًا بالغ الأهمية لتنفيذ تدابير وقائية فعالة وتوفير التدخلات الطبية في الوقت المناسب لمنع حدوث الكوارث أو لتقليل أثرها الجمعي على اقل تقدير.
أورد في هذا المقال ضمن سلسة متلاحقة من المقالات حول الأمراض الموقع انتشارها والطرق الممكنة للتعامل معها في سياق الحرب.
أولا: الأمراض معدية:
الأمراض المنقولة بالمياه: من بين الأمراض المنقولة بالمياه التي قد تنتشر بشكل خطير في مثل هذه الظروف هي الكوليرا وحمى التيفوئيد والتهاب الكبد الوبائي خاصة النوع (أ). وذلك مع تلف البنية التحتية للمياه وتلوث مصادرها وسوء الصرف الصحي. فبمجرد تلوث مصادر المياه الرئيسية وتعطل البنية التحتية، يمكن لهذه الأمراض أن تنتشر بسرعة، خاصة في الأماكن ذات الكثافة السكانية العالية كما هو الحال في مراكز الإيواء وخيم النازحين كالتي تشهدها محافظة رفح التي أصبح يقطنها أكثر من مليون ونصف أنسان. وهنا يجب اتخاذ إجراءات فورية وفعالة للحد من انتشار هذه الأمراض. وضمان إصلاح وصيانة البنية التحتية وإصلاح التلف في شبكات المياه والصرف الصحي بأسرع وقت ممكن لضمان توفير مياه نظيفة وصحية للسكان.
أما الحد الأدنى من الإجراءات الآنية التي يمكن لها أن تحد من انتشار الأمراض المنقولة بالمياه فيشمل تطهير المياه الملوثة باستخدام عمليات تطهير فعالة كاستخدام الكلور أو الغلي المباشر لقتل الجراثيم، وتوفير مصادر مياه بديلة مثل المياه المعبأة والخزانات المحمولة. أضف الى ذلك توعية السكان حول أهمية غلي المياه قبل استخدامها للشرب أو الطهي، وتنظيف اليدين بانتظام للوقاية من الأمراض المنقولة بالمياه، وتوفير الرعاية الطبية الفورية للأشخاص المصابين بأمراض المياه بما في ذلك إعطاء السوائل والعلاج الطبي المناسب.
وباعتبار تلف البنية التحتية للمياه وتلوثها، فإن الاستجابة السريعة والمتكاملة لمكافحة الأمراض المنقولة بالمياه تعتبر أمرًا حيويًا يتطلب تعاون المنظمات الإنسانية المحلية والدولية مع السلطات المحلية والمجتمع المحلي في تقديم المساعدة اللازمة والحفاظ على صحة السكان في ظل الظروف الصعبة التي يواجهونها.
الأمراض المنقولة بالنواقل: تؤدي المياه الراكدة والإدارة غير الكافية للنفايات إلى خلق أرض خصبة لتكاثر ونمو نواقل الأمراض مثل البعوض، مما يزيد من خطر الإصابة بأمراض مثل الملاريا وحمى الضنك والليشمانيا الجلدية وحمى الوادي المتصدع. وبالرغم من عدم وجود نواقل هذه الأمراض وتسجيلها سابقا في قطاع غزة إلا أن تجمع المياه الراكدة من الصرف الصحي كالتي نشاهدها قرب خيمات النازحين في المواصي وخان يونس ورفح، وتراكم النفايات وانهيار نظام الوقاية والتطعيم ضد هذه الأمراض، تعتبر من عوامل الخطورة التي تودي الى زيادة احتمال ظهور لهذه الأمراض خاصة مع دخول فصل الصيف. أضف الى ذلك الأمراض الجلدية الأخرى مثل داء الجرب (السكيبيز) والعدوى الفطرية (ديرماتوفايتس) والجدري وانتشار القمل والعديد من الأمراض الأخرى التي نأتي على ذكرها تفصيلا في مقالات لاحقة.
ولعل اهم الخطوات الممكن اتخاذها للحد من إمكانية ظهور هذه الأمراض والوقاية منها هي التوعية الصحية حول أهمية النظافة الشخصية وتوفير الوقاية خاصة استخدام طاردات البعوض الجلدية مثل زيت الخروع وارتداء الملابس الطويلة واستخدام الشباك لتقليل احتمال لسع البعوض.
التهابات الجهاز التنفسي: يؤدي الاكتظاظ في مراكز الإيواء والخيام وقلة التهوية إلى زيادة انتقال التهابات الجهاز التنفسي مثل الأنفلونزا والزكام والتهاب الحلق والتهاب الشعب الهوائية والتهاب الرئتين. ويمكن أن تكون هذه الأمراض ناتجًا عن عدة عوامل مثل العدوى الفيروسية أو البكتيرية أو الفطرية. وينصح باتباع إجراءات الوقاية مثل غسل اليدين بانتظام وتغطية الفم والأنف عند السعال أو العطس لتقليل انتقال العدوى. كما ينبغي للأفراد الذين يعانون من أعراض الإصابة بالتهابات الجهاز التنفسي البقاء بمعزل عن الأخرين والحصول على الرعاية الطبية عند الضرورة.
الأمراض المنقولة بالغذاء: قد يؤدي انقطاع الإمدادات الغذائية وعدم كفاية تخزين المواد الغذائية إلى تلوث هذه الأغذية، مما يؤدي إلى تفشي أمراض مثل داء السالمونيلا (التسمم الغذائي البكتيري) والتسمم الغذائي الفيروسي والفطري والتسمم بالطفيليات الدودية مثل الطفيليات الأميبية والديدان الشريطية، والتي يمكن أن تنتقل عن طريق تناول الأطعمة الملوثة بالبيض الطفيلي أو الماء الملوث. أضف الى ذلك التسمم بالمواد الكيميائية والملوثات البيئية مثل التسمم بالزئبق أو البيستيسيدات.
تلك هي بعض الأمثلة على الأمراض المنقولة بالغذاء، ويمكن اتباع إجراءات الوقاية والنظافة الغذائية السليمة لتقليل خطر الإصابة بهذه الأمراض، مثل غسل الفواكه والخضروات بشكل جيد قبل تناولها وطهي اللحوم بشكل كافي وتخزين الأطعمة في درجة حرارة مناسبة خاصة عند قدوم فصل الصيف.
ثانيا: الأمراض غير المعدية:
اضطرابات الصحة العقلية : خلال فترات الحرب، تتفاقم الظروف الصعبة والضغوط النفسية على الأفراد والجماعات، مما يؤدي إلى زيادة انتشار اضطرابات الصحة العقلية وتفاقم القلق والاكتئاب. ولعل اهم هذه الاضطرابات هو واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) – Post-Traumatic Stress Disorderوالذي يمكن أن ينتج عن تعرض الأفراد لأحداث مروعة كالتي تحدث الآن في قطاع غزة مثل القتال المباشر أو فقدان الاحبة. ويتميز هذا الاضطراب بالفزع المستمر والذكريات المؤلمة للأحداث المؤلمة، ويمكن أن يصاحبه الأرق والهلع والعزلة الاجتماعية. ويمكن أن تزداد حدة القلق والتوتر خلال فترات الحرب بسبب عدم اليقين والتهديدات المستمرة للسلامة الشخصية وسلامة الأحباء. وقد تظهر اضطرابات القلق والشعور بالحزن المستمر وفقدان الاهتمام بالأنشطة اليومية المختلفة مثل القلق العام واضطراب الهلع.
ومن الاضطرابات الهامة أيضا اضطرابات النوم (Sleep Disorders) حيث يمكن أن تؤثر الأحداث المؤلمة والضغوط النفسية خلال الحروب على نوم الأفراد، مما يؤدي إلى مشاكل في النوم مثل الأرق والكوابيس الليلية. ويصاحب ذلك اضطرابات الأكل (Eating Disorders) خاصة في ظل المجاعة التي تهدد السكان. ولا يخفى على كل قارئ تقارير المنظمات الدولية التي تشير الى مجاعة وشيكة في غزة. فقد يلجأ البعض إلى سلوكيات تناول الطعام غير الصحية مثل التجويع أو الأفراط في تناول الطعام كوسيلة للتعامل مع الضغوطات النفسية خلال الحرب.
الأمراض المزمنة: حيث يشكل انقطاع خدمات الرعاية الصحية ونقص الأدوية تحديات أمام الأفراد المصابين بأمراض مزمنة مثل السكري وارتفاع ضغط الدم والسرطان وأمراض الكلى والقلب والأوعية الدموية.
إجراءات الوقاية
الماء والنظافة:
إن إنشاء مصادر للمياه النظيفة وتعزيز ممارسات النظافة مثل غسل اليدين يمكن أن يمنع الأمراض المنقولة بالمياه. ويعد تنفيذ أنظمة إدارة النفايات المناسبة ومرافق الصرف الصحي من اهم الاحتياجات اللازمة للتقليل من خطر انتقال الأمراض. ويمكن أن ان تساعد كلورة مصادر المياه وتوزيع أقراص تنقية المياه إلى ضمان الحصول على مياه صالحة للشرب.
مكافحة ناقلات الأمراض:
إن إجراء مراقبة ناقلات الأمراض وتنفيذ تدابير مكافحة البعوض، مثل رش المبيدات الحشرية والتهوية الدائمة في مراكز الإيواء خاصة في مدينة رفح حيث يقيم أكثر من مليون ونصف لاجئ في الخيام ومراكز الإيواء وذلك من اجل تقليل موائل اليرقات.
التثقيف الصحي وتعزيزه:
يعد التثقيف الصحي حول تدابير الوقاية من الأمراض من اهم الوسائل الفعالة، بما في ذلك حملات التطعيم والتعامل السليم مع الأغذية. وكذلك تعزيز الوعي بالصحة العقلية وتوفير خدمات الدعم النفسي والاجتماعي لعلاج التأثير النفسي الناتج عن الحب.
الوصول إلى الرعاية الصحية:
يعد ضمان الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية الأولية، بما في ذلك اللقاحات والأدوية المضادة للأمراض السارية والمعدية والمضادات الحيوية، أمرًا بالغ الأهمية لعلاج الأمراض ومكافحتها. إن دعم مرافق الرعاية الصحية بالإمدادات الطبية والموظفين والبنية التحتية يعزز قدرة نظام الرعاية الصحية على الاستجابة لتفشي الأمراض.
وفي الخاتمة دعونا نذكر انه وفي سياق هذه الحرب الدامية في غزة، وبموجب التقارير الأممية المتلاحقة حول خطر المجاعة وتفشي الأمراض وانهيار النظام الصحي والخدمات الصحية، فإن ذلك يشكل مصدر قلق كبير وناقوس خطر محدق. حيث تتطلب هذه المرحلة الحرجة معالجة وبائيات الأمراض واتباع نهج شامل يشمل التدابير الوقائية، والحصول على الرعاية الصحية، والمشاركة المجتمعية. ومن خلال تنفيذ استراتيجيات الحماية من الأمراض المعدية، والتخفيف من تأثير الأمراض غير المعدية، وتعزيز الصحة العامة والعناية بالسكان. ويعد التعاون بين السلطات المحلية والمنظمات الإنسانية والوكالات الدولية أمرًا ضروريًا لتلبية الاحتياجات الصحية لسكان غزة بشكل فعال خلال الحرب وبعد توقفها.
يتبع مقالات تفصيله حول جميع هذه الأمراض وطرق التعامل
والله المستعان
أ.د. أحمد عمرو – مختص في علم الأوبئة – وعميد كلية الصيدلة في جامعة القدس