جيل ما بعد أوسلو..واستعادة الطريق، بقلم : رانيا لصوي
مفهوم الشباب الذي بات يُطلق على الحراكات الاجتماعية على اختلاف صبغاتها السياسية والأيديولوجية، كلٌ حسب توجهاته، توصيفات باتت تدخل ضمن أطر وبرامج “سلطوية” جاهزة تم تفريغها من مضامينها الحقيقية، خاصة في فلسطين – ما بعد أوسلو.
سابقاً، كانت الفصائل والمركزيات الفلسطينية تحاول فرض رؤيتها على الشارع الفلسطيني، بما يتوافق مع برامجها المركزية الفكرية، يسارًا ويمينًا، معطين الأولوية للفكر وليس للتحرير.
فالليبراليون يرون في الشباب حربة التحرر الفرداني والتوق إلى الديمقراطية الليبرالية.
الماركسيون يرونهم حملة لراية الصراع الطبقي والعدالة الاجتماعية.
والقوميون والإسلاميون يرون فيهم مشروعًا سياسيًا فوق الدولة القطرية.
جاء جيل “أطفال الحجارة”، عابرًامن طفولة إلىرجولة، مقحمًا نفسه بالاشتباك المباشر مع العدو الصهيوني، رافضًا الخنوع أو القبول بالمحتل. جيل فرض نفسه من واقع الحراك على الأرض، بعيدًا عن مهاترات السلطة والتسويات المشوهة.
وأفرزت الانتفاضة الأولى سياقاتاجتماعية ووطنية مغايرة لما سبقها، كان الشباب هم الرافعة الأساسية للعمل المقاوم والمباشر في مواجهة العدو الصهيوني، محققًا المعجزات.
اتفاق أوسلو حوّل الخطاب الرسمي الفلسطينيإلى المأسسة السياسية ضمن مشروع بناء الدولة، الذي اتخذ عدة أشكال من الهيمنة السياسية من قبل السلطة الفلسطينية ومؤسسات المجتمع المدني المحلية والدولية،الغربية تحديدًا، مما أدىإلى تحول كامل من قبل أجهزة السلطة، من “تحرير” إلى “دولة” ملامحها غير مستقرة، تعمل ضمن بيروقراط، وأجهزةأمنية، وسقطت في التنسيق الأمني مع الاحتلال.
جيل ما بعد أوسلو، رغم مجريات الانتفاضة الفلسطينية الثانية وما تبعها من هبّات وانتفاضات تميزت بابتكار وسائل نضالية جديدة، والانتقال من الحجر وصولًا إلى الصاروخ، كتوصيف لمرحلة شكلت وعيه في زمن التَّسوية السياسية والحروب التدميريّة، وتنامي الاستيطان وواجه وعاش الحصار والاعتقال، واختبر حُدود القوّة، واكتشف بنفسه محدوديّتها وأدرك مفهوم الإمبريالية والصهيونية الحقيقي للسّلام عبر التّسويات التي تستعجلها موازين قوى غير متكافئة.
عايش هذا الجيل اختزال وسقوط ما كان يسمى بالنخب الفلسطينية،وتمعن في أسباب نضوج أو فشل أي حراك على الارض، مراعيًا الظروف المعيشيّة القاسية، وارتفاع البطالة، وانتشار الفقر إلخ.. وبحث في أسباب تراجع دور منظمة التحرير الفلسطينية وفصائل العمل الوطني لصالح مشروع الدولة بسيطرة اليمين الفلسطيني.
كما شهد جيل ما بعد أوسلو الارتداد عن عمليّة التّسوية السِّياسيّة الذي قاده نتانياهو بالعودة “بالمشروع الاسرائيلي” إلى أصوله الأولى، وعايش تفاصيل الانقلاب على اتفاقات أوسلو، إضافة إلى التّجاهل والتّساهل العربي والدولي تجاه القضية الفلسطينية، فلم تعد القضية هي القضية المركزية لأحد إلا ضمن الضوابط والمصالح ومحاور الاستقطاب.
اصطدم هذا الجيل بغياب الأُطر الحاضنة، وتراجع السقف السياسي للبرامج الوطنية على أرض الواقع، فكانت نتيجة هذا الصدام هي محاولة الحسم بالبحث عن البديل الثوري الذي يعيد القضية الوطنية الفلسطينية إلى جذورها، فلسطين التاريخية، ويحمّل كل الأطراف مسؤولياته ما بعد اتفاق أوسلو.
ورغم كل هذا الإحباط والتراجع في الهم الوطني، إلا أن جيل ما بعد أوسلو، وتحت سطوة الاحتلال والخيبة من مواقف السلطة الفلسطينية، وآلام الانقسام الفلسطيني الفلسطيني، تولد إبداعه في انتفاضة من نوع آخر، انتفاضة السكاكين، الدهس، الاشتباك المباشر مع العدو الصهيوني، ولم يستسلم للأمر الواقع رغم كل التناقضات التي نعيشها حول قضيتنا، جيل لملم نفسه وتفوق على قياداته الفلسطينية في العمل والابتكار. صنع من وجعه بوصلة وطنية،يتجه مؤشرها نحو الخارطة الجغرافية لفلسطين، كل فلسطين.
فأصبح اليوم جيلًا لا يمكن إقناعه بقبول حلولٍ مجحفة، خطوطه الحمراء بالغة الوضوح، لا يقبل اختزال حقوقه الإنسانيّة الأساسيّة في العيش الحرّ الكريم كسيِّدٍ على أرضهووطنه. ومن هذا الواقع وضمن هذه القراءة نجد حملة مسعورة من الاحتلال ضد الشباب وطلاب الجامعات، حملة اعتقالات غير مسبوقة، توضح أن هذا الكيان المحتل يعي تمامًا مكامن مراكز القوة لشعبنا وقدرته على الاستنهاض، وخطر هذاالجيل، الذي لم ولن ينسى،على الكيان الصهيوني، ولم تروضه أي اتفاقيات أو تنازلات، قادرًا على التشبيك والتواصل، حمل جغرافية فلسطين على كاهله، في الداخل وفي الشتات. بشعارات لم تكن أقل من فلسطين التاريخية.