شفا -لقد ابتلي لبنان لنحو ثلاثين سنة بمافيات وأمن النظام السوري، وذاق اللبنانيون مرارة ذلك الكابوس الرهيب الذي جثم على صدرهم منذ العام 1976 وحتى عام 2005، لتغادر هذه المافيات لبنان مكرهة بعد ارتكابها أفظع الجرائم وأشنعها بحق اللبنانيين، وبعد أن مزقت نسيجهم الاجتماعي وأفسدت عيشهم السلمي الذي اعتادوه لقرون في حب ووئام، ووأدت أسلوب حياتهم القائم على الديمقراطية والتعددية والصحافة الحرة التي لا تفسد للود قضية بين المخالفين أو المختصمين، الذين كانوا دائماً يحتكمون إلى صناديق الاقتراع في تداول سلمي للسلطة قل نظيره، فأذكى نار الحقد والضغينة بين أديانه وطوائفه ومذاهبه وأحزابه، فراح المسيحي يقتل المسيحي والمسلم يقتل المسلم والسني يقتل السني والشيعي يقتل الشيعي والدرزي يقتل الدرزي، والكتائبي يقتل الكتائبي والبعثي يقتل البعثي والقومي السوري يقتل القومي السوري، في حروب مجنونة لا هدف منها إلا إراقة الدماء وإشغال الجميع بالجميع، لتنفرد المافيا السورية وعصاباتها بنهب وتبيض الأموال والعبث بالمال العام وابتزاز رجال الأعمال، وتجني المال الحرام وتحوله إلى شركات وهمية جنت من ورائها الثروات الطائلة، وقد جعلت من لبنان قاعدة لتهريب المخدرات والأسلحة وكل السلع المحرمة وغير المحرمة والاتجار بها، وغدا اللبنانيون في ظل هذه السياسة التي تبعها النظام السوري في احتلاله للبنان لا يجدون قوت يومهم ولا الرغيف الذي يسدون به جوعة أسرهم، وعرضة للملاحقة والاعتقال والقتل بشبهة وبدون شبهة، مما دفع اللبنانيين إلى الهجرة بحثاً عن الأمن والأمان والعيش الكريم الذي افتقدوه في وطنهم.
ولم يكن حال الفلسطينيين بأحسن من حال اللبنانيين، فقد راحت يد هذا النظام الطويلة تقطع أوصال فصائلهم وتوقع بين قادتهم العداء وتزرع الشك والضغينة، وتوغر صدر هذا وتخون ذاك وتقسم المقسم وتجزئ المجزأ مما تبقى من لحمة بين بعض فصائلهم، بأسلوب مخابراتي كريه ومستهجن، فترفع من تشاء وتخفض من تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء وتعتقل من تشاء وتطرد من تشاء وتصادق هذا وتعادي ذاك، لتدفع الجميع – كما أراد هذا النظام – إلى الاحتكام إلى الرصاصة والبندقية، وبالتالي إلى تصفية منظمة التحرير وما تبقى من لحمة بين فصائلها وإجبارها على مغادرة لبنان بعد أن فتك بها وقتل الآلاف في مذابح لا يزال الفلسطينيون يذكرون آلامها وأحزانها وجراحاتها.
ولكن هذا النظام بخبثه ولؤمه خرج من لبنان صورياً عام 2005 تاركاً خلفه جيشاً من العملاء والشبيحة يمسكون بتلابيب لبنان ومفاصله، يحركهم كالبيادق حيثما أراد وكيف يشاء خدمة لأغراضه وأهدافه وقد باعوا أنفسهم للشيطان بثمن بخس، فكانوا سوط هذا الجلاد يلهبون به ظهور أبناء جلدتهم وشركائهم في الوطن، وصوته النّباح عبر بعض وسائل الإعلام اللبنانية الرخيصة المرئية منها والمسموعة والمقروءة التي تخلت عن قيم وأخلاقيات المهنة، ينافحون عن ظلمه ويدافعون عن جبروته ويسوغون ما يرتكبه من جرائم بحق شعبه، فوضعوا أنفسهم إلى جانب القاتل في مواجهة الشعب السوري الذي انتفض طلباً للحرية والكرامة والديمقراطية والدولة المدنية التي يتساوى فيها كل الناس وتحترم إنسانية الإنسان فيها.
وفي هذا السياق لابد من أن نذكّر بحليف هذا النظام القاتل حسن نصر الله الذي أبى إلا أن يكون إلى جانب الجلاد في مواجهة الضحية، وقد أصم آذننا لعقود وهو يدعي نصرة المظلومين ومساندة المحرومين، وهو يخرج علينا بين الفينة والأخرى بخطاباته الرنانة التي يدافع فيها عن هذا النظام الذي استباح دم شعبه لما يزيد على أحد عشر شهراً، وهو يقطّع أوصال المدن ويدك منازلها بحمم مدافعه ودباباته وراجمات صواريخه على رؤوس ساكنيها، ويمنع عنها الماء والغذاء والدواء والكهرباء والاتصالات، ويدعي أن ما يجري في حمص، التي باتت أحياؤها ركاماً وأبنيتها أثراً بعد عين، ما هو إلا حيل يقوم بها المواطنون حيث يحرقون الإطارات فوق الأبنية ويدعون أن ذلك ناتج عن قصف مدفعية وراجمات صواريخ النظام، فهل وصل أحد من الإسفاف والكذب والدجل إلى ما وصل إليه هذا الرجل الذي يتلوى كالأفعى ويتلون كالحرباء ويروغ كالثعلب!!
وأمثال حسن نصر الله في لبنان كثر، فلا تخلو منهم شاشة فضاء أو إذاعة أو صحيفة أو احتفال أو مهرجان إلا ونسمع نعيقهم ونعيبهم ونهيقهم ونباحهم وعواءهم وخوارهم، يزورون الحقائق ويقلبون الوقائع، ويروجون روايات أكاذيب النظام ومفترياته وأباطيله.
ونحن الذين كنا ننتظر من الأشقاء في لبنان ان يكونوا عوناً لنا على هذا الطاغية الذي كم ارتكب من جرائم وآثام وفواحش في لبنان، لا تقل فظاعة وشناعة عما ارتكبه ويرتكبه في هذه الأيام بحق السوريين، وكنا نتمنى على الأشقاء في لبنان أن يكون لديهم بعض الوفاء لما قدمه الشعب السوري لهم في كل المحن التي تعرضوا لها في ثمانينات القرن الماضي وعام 2006 وقد كانوا الحضن الدافئ والملاذ الآمن لهم، وتقاسموا معهم رغيف الخبز وجرعة الماء، وآثروهم في كثير من الحالات على أنفسهم، ونخص بالذكر أهل الضاحية الجنوبية الذين يتنكرون للشعب السوري اليوم ويشاركون الأسد الصغير في ذبح السوريين وقتلهم بأساليب وحشية بربرية لم يشهد التاريخ لها مثيلا.
ولكن في المقابل هناك في لبنان من أبى أن يبيع نفسه ويتخلى عن مبادئه وقيمه وإنسانيته وأخلاقه وأصالته، ولعل في مقدمة هؤلاء الوطني اللبناني البارز السيد وليد جنبلاط الذي كان إلى الأمس القريب صديقاً للنظام السوري وحليفاً له، نصرة للمقاومة والممانعة التي كان يدعيها هذا النظام، فنراه ينحاز إلى الشعب السوري بعد ان أعيته كل السبل والطرق التي سلكها ليوقظ النظام السوري من سكرته ويعيده إلى جادة الصواب ويتوقف عن قتل شعبه ويوقف هذا الشلال من الدماء البريئة دون جدوى، وقد يأس من أن يلعب دور الصديق الصدوق مع النظام السوري، فدعا مراراً “الجنود الدروز في الجيش السوري الى رفض تنفيذ الأوامر، ودعا إلى الفرز داخل طائفة الموحدين الدروز في لبنان وسورية بين من يدعمون النظام السوري ومستعدون لأن يكونوا بمثابة المرتزقة في خدمته، وبين من يؤيدون الشعب السوري في نضاله المستمر نحو سورية ديمقراطية متنوعة”. بعكس ذاك الصديق الكذوب حسن نصر الله الذي أيد الظالم في ظلمه وسوغ كل ما يرتكبه من جرائم، وأيده في دعواه الباطلة (أن ما يحدث في سورية هو مؤامرة الهدف منها تقسيم البلاد والقضاء على النظام المقاوم) وأمده بالخبراء والأسلحة والشبيحة، فما كان من جنبلاط احتراماً للمبادئ والقيم التي أخذها عن والده كمال جنبلاط إلا الانحياز – كما قلنا – إلى الشعب السوري الثائر من أجل حريته وكرامته والوقوف إلى جانب مطالبه العادلة التي يؤمن بها وعمل من أجل تحقيقها والحفاظ عليها لسنين طويلة، وكانت آخر مواقف هذا الزعيم اللبناني الوطني شنه هجوماً عنيفا على الأسد الصغير على خلفية إصدار دستور جديد، واصفاً تنظيم استفتاء “فوق بحور من الدماء بأنه بدعة”، ومعتبراً أن زعماء راحلين مثل ستالين وتشاوشيسكو وصدام حسين كانوا “أكثر حياء من الرئيس السوري”.
وقال جنبلاط في مقال أسبوعي نشرته جريدة “الأنباء” الصادرة عن الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يرأسه، “يا لها من بدعة جديدة سوف تكتب عنها كتب التاريخ والعلوم السياسية، وهي بدعة إجراء استفتاء لما يسمى مشروع دستور جديد مع روائح الجثث وغبار الركام في حمص ومدن وقرى سورية أخرى، ومع أزيز الرصاص ودوي المدافع وضجيج القذائف وقصف الدبابات”.
وأضاف جنبلاط قائلاً “حتى أكثر الأنظمة قسوة، من (جوزيف) ستالين الى (نيكولاي) تشاوشيسكو، مرورا بصدام حسين وصولاً إلى بعض الحكام العرب الذين رحلوا غير مأسوف عليهم، كانوا يملكون شيئاً من الحياء ولا ينظمون استفتاءات شعبية فوق بحور من الدماء”.
وانتقد جنبلاط موسكو، وهو المعروف بعلاقاته الوثيقة بها. ودعا بشكل غير مباشر الى رحيل الأسد اليها. وقال “يا لها من بدعة جديدة أن نرى دولاً كبرى تؤيد هذه المسرحية المسماة استفتاء، وهي التي تقدم الدعم العسكري والاستخباراتي والأمني للنظام السوري، فيما تكرر في الوقت نفسه معزوفة رفض التدخل الخارجي ليلا ونهاراً”.
لقد أبانت الثورة في سورية معادن الرجال وكشفت عوراتهم وميزت بين الغث والسمين والصادق والكاذب والحر والعبد والمفتري والمنصف، وغربلت الناس فسقط من سقط وصمد من صمد، وستبقى الثورة رغم أنف المشككين والدجالين، ورغم قسوة الجلاد وسفهه وفجوره وجرائمه تسير بعزيمة وتصميم وإرادة لا تلين حتى إسقاط النظام، وانتزاع الحرية والفوز بالكرامة وتحقيق أمانيها في إقامة دولة مدنية يجمع أبناءها الهوية الوطنية، يكونون متساوون في الحقوق والواجبات، في تعايش سلمي رائع كما كانوا عبر تاريخهم، مخلفين وراءهم السنين العجاف بكل مراراتها وعذاباتها وجراحاتها، فالثورة تجب ما قبلها، فالأوطان لا تبنى على الضغينة والثارات والأحقاد، بل تبنى على التسامح والترفع فوق الجراح.