سيناريوهات مسار التسوية بعد طوفان الأقصى، بقلم : هاني المصري
قبل أن نبدأ الحديث عن المسارات المتوقعة على مسار التسوية بعد الحرب، لا بد من تأكيد أن العامل الحاسم الذي سيؤثر في هذه المسارات/ السيناريوهات هي نتيجة الحرب، فهناك فرق إذا انتصرت إسرائيل انتصارًا حاسمًا، أو انتصرت المقاومة انتصارًا حاسمًا، أو كانت نتيجة الحرب لا غالب ولا مغلوب؛ إذ يستطيع في هذه الحالة كل طرف ادعاء الانتصار.
وفي قراءة عميقة لمجريات الحرب ومساراتها المحتملة والعوامل الثابتة والمتغيرة التي تؤثر فيها بعد 110 أيام على اندلاعها، يتضح أن السيناريو المرجح هو عدم قدرة أي طرف على توجيه ضربة قاضية للطرف الآخر، وأن الانتصار إن حدث سيكون في النقاط انتظارًا لجولات قادمة.
وكما هو معروف في تاريخ الحروب العسكرية بشكل عام، وفي الحروب التحررية التي تخوضها شعوب تعاني من الاستعمار فإن الطرف الضعيف إذا لم يُمكّن الطرف القوي من تحقيق أهدافه فإنه يكون بمعنى من المعاني قد انتصر، ويمكن أن تتحقق هذه النتيجة نظرًا إلى الأهداف العالية العلنية والسرية التي وضعتها الحكومة الإسرائيلية، والتي تبدأ بالقضاء على المقاومة، وتمر بإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وألا يكون قطاع غزة مصدرًا للتهديد في المستقبل القريب، ولا تنتهي بالتهجير، وتقليص مساحة وسكان القطاع، وفرض مناطق عازلة وإدارة ذاتية تخضع للاحتلال من دون تسميته احتلالًا.
لم تشهد المدة التي يغطيها التقرير نشاطات وتحركات جدية لإحياء مسار التسوية؛ لأن الملف بقي تحت رعاية وسيطرة الإدارة الأميركية التي استمرت بالحديث عما يسمى “حل الدولتين”، وكانت تردد دائمًا أنه بعيد المنال، إلى أن جاء طوفان الأقصى الذي قلب الأمور رأسًا على عقب؛ حيث أصبحت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تردد يوميًا عن التزامها بحل الدولتين، وأصبح هناك اهتمام عالمي غير مسبوق بحل الدولتين. ولكن، هذا نوع من بيع الوهم، ويجب ألا يخدع أحدًا؛ لأن الهدف الأساسي منه هو إقناع الدول العربية والإسلامية التي لم تعترف بإسرائيل بتطبيع العلاقات معها، وخصوصًا المملكة العربية السعودية، من خلال الادعاء بأنها إذا طبعت ستحصل على دولة فلسطينية طالما طالبت بها، وبذلك يتم تطبيق مبادرة السلام العربية، وما سيحصل إذا تم شراء الوهم تطبيع من دون دولة.
في هذا السياق، لاحظنا المبادرة التي أطلقها جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي، في مؤتمر دافوس الذي عقد في كانون الثاني/ يناير 2024؛ حيث تركزت على ثلاثة أركان قدمت وفق الترتيب الآتي: التطبيع؛ أمن إسرائيل؛ الدولة الفلسطينية؛ أي تريد الإدارة الأميركية مقايضة التطبيع ودمج إسرائيل في المنطقة وتوفير أمنها بالدولة التي تنتهي إلى مجرد وعد ببدء مسار سياسي، على أساس أن لا أحد يستطيع ضمان أن يؤدي في النهاية إلى الدولة الفلسطينية.
وثمة ذرائع جاهزة لذلك، أبرزها أن السلطة الفلسطينية ضعيفة وفاسدة وغير جاهزة وبحاجة إلى إصلاح وتنشيط وتجديد، مع أن الاحتلال وبدعم أو تغاضٍ عما يفعله، ساهم بشدة في وصول السلطة إلى ما وصلت إليه، وأن إسرائيل غير جاهزة وبحاجة إلى انتخابات مبكرة يفوز فيها ائتلاف حاكم جديد أقل تطرفًا، أو يقبل نتنياهو بإقامة “الدولة” على أساس قبول ما طرحه عليه بايدن في المكالمة الهاتفية التي جرت بينهما بعد مقاطعة استمرت شهرًا، فقد قال له إن هناك “أنماطًا “عديدة للدولة، وما يعنيه ذلك أنها ستكون منزوعة السلاح وتحت الوصاية الأميركية والإسرائيلية، وتحتفظ بعدها إسرائيل بمعظم القدس ومعظم المستعمرات الاستيطانية، ولا يتم حل قضية اللاجئين … إلخ.
وبعد إعلان موافقة نتنياهو على الدولة على النمط الذي قدمه بايدن، ثارت ثورة داخل الحكومة الإسرائيلية ضد الدولة الفلسطينية وموافقة نتنياهو عليها، أدت بعد ساعات قليلة إلى صدور بيان من مكتب رئيس الحكومة يتضمن عدم موافقته على ما نقل عن بايدن، وطبعًا هو كاذب.
فقد سبق أن وافق على الدولة الفلسطينية في خطابه في جامعة بار إيلان في العام 2009، وسرعان ما تراجع وصمت على ما تضمنته صفقة ترامب من بند يتحدث عن دولة لا تملك من مقومات الدول إلى الاسم، ومقامة على ناقص 30% من مساحة الدولة المفترض قيامها في الضفة الغربية وقطاع غزة (22% من مساحة فلسطين)، مفضلًا مراضاة قاعدته من المتطرفين الدينيين والقومين الأكثر تطرفًا حتى على مراضاة أكبر صديق وشريك وداعم لإسرائيل .
السيناريوهات المحتملة
السيناريو الأول: بقاء الأمور على ما هي عليه
هذا السيناريو غير مرجح، ويقوم على أن تبقى الأمور بعد الحرب كما كانت قبلها أكثر أو أقل قليلًا؛ أي يبقى مسار التسوية مجمدًا.
ويتحقق هذا السيناريو إذا انتصرت إسرائيل في الحرب؛ إذ ستتواصل مخططات تطبيق برنامج التهويد والضم والتهجير ومنع قيام دولة فلسطينية؛ حيث يكون سقف التعامل مع الفلسطينيين أمنيًا اقتصاديًا، مع تحويل السلطة إلى سلطة متعاونة مع الاحتلال ومستمرة بالالتزام بالتزامات أوسلو، على الرغم من تجاوز الالتزامات الإسرائيلية فيه منذ زمن بعيد، فكما قال نتنياهو إنه قضى على أوسلو وعلى إمكانية قيام دولة فلسطينية في الماضي، وإنّ بقاءه في الحكم يضمن عدم قيامها في المستقبل، ويعزز من هذا السيناريو موافقة السعودية على التطبيع من دون اشتراط قيام دولة فلسطينية.
السيناريو الثاني: إحياء مسار التسوية
يمكن أن يشهد هذا السيناريو تحركات ومبادرات لإحياء مسار التسوية لتكون أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة، ولكن يمكن التغاضي عن تسميتها دولة، وهذا في حال سقوط الحكومة الإسرائيلية الحالية ومجيء حكومة أقل تطرفًا، وهذا هو الأرجح حتى الآن.
وفي هذه الحالة يمكن أن “تُجدد” السلطة، وتخضع أكثر، ويتم توسيع صلاحياتها الإدارية والمالية والاقتصادية ومناطق سيطرتها لتشمل جزءًا من مناطق (ج)، ولكن لن تصل الأمور إلى إنهاء الاحتلال واستقلال دولة فلسطين على حدود 67 وعاصمتها القدس.
ويمكن في هذا السيناريو أن يستمر الانقسام الفلسطيني، أو يحدث نوع من الوحدة وإدارة الانقسام لتسهيل عملية الإعمار، ويمكن أن يكون مركز السلطة/ الدولة قطاع غزة وتُلحق بها معازل الضفة الغربية،.
وفي هذا السيناريو تقبل السعودية التطبيع مقابل مسار سياسي على أمل أن يؤدي إلى دولة فلسطينية، وستكون من دون مقومات الدول ولا تقوم على حدود 1967.
السيناريو الثالث: إنهاء الاحتلال وتجسيد استقلال دولة فلسطين
هذا السيناريو هو المفضل، ولكنه لا يملك فرصة كبيرة، وهو يفضي إلى إنهاء الاحتلال وتجسيد استقلال دولة فلسطين، وهذا بحاجة لكي يتحقق إلى مدى زمني يستمر لسنوات عدة، ولكن ملامحه يمكن أن تظهر في هذا العام.
ويعزز من احتمال هذا السيناريو تراجع دور الولايات المتحدة وحلفائها وتقدم الصين وروسيا وإيران، واتباع السعودية ودول الخليج عمومًا دورًا مستقلًا، أو يحافظ على درجة من الاستقلال.
العوامل التي تدفع نحو سيناريو إنهاء الاحتلال وتجسيد استقلال دولة فلسطين
أولًا: الصمود الشعبي الأسطوري والمقاومة الباسلة التي تمكنت من إفشال معظم أهداف العدوان ولا تزال صامدة ومرشحة للصمود.
ثانيًا: حرّكت الكارثة الإنسانية التي وصلت إلى حد ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية انتفاضة شعبية عالمية غيرت بشكل ملموس من موقف الرأي العام العالمي، حتى في صفوف اليهود على امتداد العالم، وهي أثرت في مواقف الكثير من الدول، خصوصًا في أوروبا، ويمكن أن تؤثر أكثر.
ويعطي هذا العامل أهمية كبيرة وضع إسرائيل بعد التدابير المقرة في قفص الاتهام في محكمة لاهاي؛ حيث أصدرت المحكمة قراراتها المبدئية التي تتضمن إدانة إسرائيل بشبهة ارتكاب جريمة الإبادة، ومطالبتها بوقف أعمال الإبادة والعقوبات الجماعية من دون أن تصل إلى وقف صريح للحرب، إلى حين استكمال التحقيق لإصدار الحكم النهائي الذي سيستغرق وقتًا طويلًا.
سيضع صدور الحكم إسرائيل لأول مرة في دائرة المساءلة وممارسة العقوبات ضدها، وسيبدأ هذا في دول منفردة، وصولًا إلى عزلها وإدانتها ومحاسبتها بشكل واسع.
ثالثًا: ستؤدي نتائج الحرب على الأرجح إلى سقوط حكومة نتنياهو وتشكيل حكومة أقل تطرفًا وأكثر تعاونًا مع الإدارة الأميركية، وهي يمكن أن تقبل قيام دولة ليست بدولة، مقابل إدماج إسرائيل في المنطقة وتطبيع العلاقات مع السعودية ودول أخرى.
رابعًا: يزيد فتح جبهات إسناد من لبنان والعراق واليمن من احتمال اندلاع حرب إقليمية مفتوحة على احتمال التحول إلى حرب عالمية، جراء أنّ الأحداث تجري في ظل سيولة عالمية ناجمة عن انهيار النظام العالمي القديم، وتزايد الإرهاصات التي تشير إلى إمكانية ميلاد نظام عالمي جديد متعدد القطبية، وما يعنيه ذلك من ازدياد حدة المنافسة بين الأقطاب المؤثرة في العالم، خصوصًا بين القطبين الصيني والأميركي، وهذا يرفع من احتمال قيام دولة فلسطينية مستقلة وليس الصيغة الغامضة التي تتحدث عن حل الدولتين.
إن ما يجري منذ السابع من أكتوبر أثبت مجددًا أن القضية الفلسطينية عامل مهم جدًا وقابلة للاستخدام، سواء في تفجير المنطقة والعالم، أو في إحراز أمنهما واستقرارهما، وهذا يدفع باتجاه العمل من أجل التوصل إلى تسوية، لا سيما أنّ كل محاولات استخدام القوة لفرض حل إسرائيلي أحادي لم ولن تنجح.
خامسًا: أثبت طوفان الأقصى واستمرار حرب الإبادة لأكثر من 110 أيام أن الكيان الإسرائيلي قابل للهزيمة، وأن هناك حدودًا للقوة وما يمكن تحقيقه، وأن استمرار إسرائيل في النهج نفسه الذي اتبعته منذ أكثر من 75 عامًا، لا يوفر الأمن والرفاهية لليهود، بل يجعلها المكان الأكثر خطرًا لهم، وهذا يزيد من عوامل انهيارها وزوالها إذا لم تغير سياسة الهيمنة والاستعمار والاحتلال والفصل العنصري والعدوان العسكري.
العوامل التي تحول دون تحقيق إنهاء الاحتلال وإنجاز الاستقلال
أولًا: عدم وجود شريك إسرائيلي للتسوية؛ ما يتطلب توليد ضغط داخلي وخارجي، وخصوصًا خارجي، حتى يصبح الاحتلال يسبب خسائر أكثر ما يحقق من أرباح؛ ما يؤدي إلى دحره.
ثانيًا: وجود طرف فلسطيني يراهن على هزيمة المقاومة وصدم من صمودها، ويخشى من الانحياز لشعبه، لذا اتخذ موقف الحياد والانتظار إلى حين اتضاح نتيجة الحرب ليحدد موقعه في ضوئها، متوهمًا أنه سيكسب ويتجنب الخسائر، على الرغم من اتضاح أن الحرب ضد الفلسطينيين جميعًا، وتستهدف تصفية قضيتهم من مختلف جوانبها، وأن هذا الفريق سيخرج خاسرًا، سواء إذا هزمت المقاومة أو انتصرت إذا لم ينحز لشعبه ويعمل من أجل الوحدة قبل فوات الأوان.
ثالثًا: إن الإدارة الأميركية الحالية والإدارة القادمة إذا فاز مرشح الحزب الجمهوري لا توافق على قيام دولة فلسطينية حقيقية، بل إن إدارة بايدن تبحث عن قيام دولة فلسطينية ليس لتجديد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، بل لتساعد على تحقيق الأمن الإسرائيلي ومنع قيام دولة ثنائية القومية، وتحافظ على إسرائيل بوصفها دولة يهودية، ومن أجل دمج إسرائيل في المنطقة بما يضمن استمرار الهيمنة الأميركية على المنطقة، وإقامة شرق أوسط جديد يحد من تقدم الصين وروسيا وإيران.
رابعًا: سقف الموقف العربي الرسمي منخفض، ويجعل هذا في حال استمراره احتمال أن تقبل السعودية بمقايضة التطبيع المعجل مقابل وعد بقيام دولة فلسطينية أمرًا واردًا. صحيح أن هذا ليس الاحتمال الوحيد لكن لا يمكن تجاهله.
خامسًا: لا تزال الصين على الرغم من تحسن وتقدم موقفها تحافظ على علاقات جيدة مع إسرائيل و لم تلق بثقل كبير ينافس أميركا بقوة على النفوذ في المنطقة وتعتمد سياسة الصعود السلمي البطئ.
على الرغم كل ما تقدم، لا بد من تحقيق وحدة موقف فلسطيني، وتشكيل قيادة فلسطينية واحدة تستند إلى توافق وطني إلى حين إجراء انتخابات، وتؤدي إلى فتح أبواب منظمة التحرير لمختلف القوى، بما فيها حماس والجهاد، وتشكيل حكومة وحدة أو توافق وطني.
إن من شأن ذلك أن يضاعف من احتمال قيام دولة فلسطينية حقيقية، وقطع الطريق على كل السيناريوهات المعادية لمستقبل غزة، ويجعلها أمرًا يقرره الفلسطينيون وليس الأطراف والمشاريع الإقليمية والدولية التي تريد إعادة مشاريع الإنابة والوصاية والانتداب.
وإذا لم تستطع القوى الفلسطينية التوحد بمشاركة القيادة الرسمية، فيمكن البدء بتوحيد معظم القوى والمؤسسات والأفراد التي تلتقي على برنامج كفاحي واحد، جوهره الكفاح لإنهاء الاحتلال وإنجاز الاستقلال الوطني لدولة فلسطين؛ ذلك لأن المعركة السياسية والعسكرية الدائرة الآن تستهدف أساسًا تحديد وحسم مصير الضفة والقطاع؛ لأن القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة تتعامل مع أراضيهما بوصفها أرضًا محتلة، ومعظم العالم، وخصوصًا الرأي العام العالمي، يدعم قيام دولة فلسطينية مستقلة وليس ما يسمى “حل الدولتين”، ولأنهما يقيم فيهما ملايين الفلسطينيين ونحو مليون مستوطن.
في هذا السياق، إن التركيز على إنهاء الاحتلال وتجسيد استقلال دولة فلسطين هدف يتناسب مع التضحيات الغالية التي قدمت، وإذا كان لا يمكن تحقيقها الآن يجب مواصلة النضال لتحقيقها على المدى المباشر، من دون أن يعني النضال لتحقيقها التخلي عن الأهداف والحقوق الفلسطينية الأخرى، ومن دون أن يعني أن تحقيقها يتناقض مع إنجاز الحل التاريخي الديمقراطي على كل فلسطين.