فلسفة التغيير ، بقلم : أ.د. أفنان دروزة
أرى كل شيء حولي يتغير، فالمكان يتغير، والزمان يتغير، والأصدقاء تتغير، والوجوه تكبر وتهرم وتتغير، والإنسان يشب ويهرم ويتغير. شوارع تفتح وشوارع تغلق، بنايات تقام وبنايات تدكّ، كائنات تولد وكائنات تموت، وصغير يكبر وكبير يهرم، ولا شيء يبقى على حاله، ولا يستمر على وتيرة واحدة، وما كل ذلك إلا لأن التغيير سنة الحياة ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وما ينطبق على الماديات ينطبق على الروحانيات والعلاقات الاجتماعية، فمن كنت تعتبره حبيبا، فهو اليوم شخص عادي، ومن كنت تعتبره صديقا فهو اليوم عدو، واللحظات التي كنت تعتبرها جميلة فهي لم تعد تحرك فيك ساكنا، والمكان الذي كان يثير فيك الذكريات الجميلة لم يعد يستثير فيك شيئا جميلا، والذي كان يأسر قلبك بالأمس فهو اليوم إنسان حيادي لا أثر له في حياتك ولا تأثير، ومن كنت تتقرب إليه تنفر منه اليوم، وما كان بنظرك جميلا أصبح قبيحا شنيعا. فكل شيء خاضع للتغيير والحزن ينقلب فيه فرحا والفرح ينقلب حزنا، والعسر يرافق اليسر واليسر يرافق العسر، والسعادة تتحول إلى شقاء والشقاء يتحول إلى سعادة، والصحة يحدوها المرض والمرض يحدوه الصحة، فكل شيء يتغير ويتبدل.
والسؤال الذي يطرح نفسه، هل التغيير في صالح الإنسان أم ضده، وهل التغيير هو شيء إيجابي أم سلبي، وهل هو أفضل من الجمود الجميل أم أسوأ من الحركة القبيحة، وما سر التغيير ولم التغيير؟ أظن أن التغيير يبقى في صالح الإنسان، وأن التغيير سواء أكان إيجابيا أم سلبيا تظل فيه روح الحياة، لأن في التغيير الحركة والنشاط وفيهما الحياة، وفي الجمود الروتين والسكون وفيهما الموت، وبما أن الحياة أفضل من الموت، فالتغيير إذن يظل أفضل من السكون، وبما أن الحياة جمالها بالسعي سواء أكان لكسب الرزق أو تربية الولد أو نشر العدل أو رفع الظلم أو تجميل الحياة أو مقاومة الشر أو كسب العلم، إذن يظل التغيير ـ حتى لو كان ظاهره نار الجحيم ـ فهو في حقيقته لصالح الإنسان، وعكسه الجمود الذي يحنّط الإنسان ويقتل طاقته ويقضي على كل شيء جميل عنده حتى لو كان في ظاهره جنة النعمان، وما كل ذلك إلا لأن الشيء الساكن يفقد قيمته ولم يعد يحرك في النفس ساكنا مع الأيام ، أما الحركة ففيها النشاط والتجربة والاختبار وحب الاستطلاع الذي ينقل الإنسان من وضع إلى وضع، ومن حال إلى حال؛ مما يشعرك بأنك تعيش الحياة، وأنك في استمرارية لا تنتهي. وكذلك المشاعر والعواطف فهي تتغير ولا تبقى على حال، وهذه هي النعمة التي أسبغها الله على عباده المؤمنين، فلو أن مشاعر الحب ظلت ثابتة لمجّها الإنسان ولما قدر قيمتها عندما يفقدها، وكذلك مشاعر الكره فلو ثبتت على حال لما أدرك قيمة مشاعر الحب عندما تأتي إليه ناعمة رخيّة. وقس على ذلك الحرب والسلم، والربح والخسارة، والفرح والغضب، والجهل والعلم، والجنة والنار، فلولا التغيير لما عرف الإنسان قيمة النقيض، ولولا النقيض لما عرف قيمة الشيء. فالتغيير إذن هو النمو والتطور الذي يدفع بالإنسان والحياة إلى الأمام. وحتى الموت الذي ننظر إليه بأنه شيء قبيح وسكون وانتهاء، فهو في حقيقته تطور وارتقاء وانتقال من مرحلة إلى أخرى. وعلينا أن نعرف أن الزمن لا يعود إلى الوراء، وحتى لو عاد ونسف الإنسان كل الإنجازات التي بناها أخوه الإنسان، فإن العقول والأرواح تكون قد تطورت ولم تعد هي نفس العقول التي كانت في الزمن الماضي، حيث أنها تعود وتبني ما هدمته الطبيعة بطريقة مختلفة.
إذن فالتغيير يظل شيئا جيدا، ونعمة وأي نعمة! إنه الحياة المتجددة، إنه الطاقة المتفجرة، إنه النمو، إنه النضج، إنه جوهر الحياة. إذن علينا ألاّ نيأس إذا تغير الحال واختلفت الأحوال، لأن في باطنها نمو العقل والروح والسعي والعمل، وفيها الحياة الجميلة التي تشعرك بإنسانيتك وقوتك وأنت تخوض غمارها. فأهلا وسهلا بالتغيير ما دام فيه الحركة والحياة، وأهلا وسهلا بتبعاته ما دام فيها النمو والتطور العقلي والروحي واختبار شيء جديد، وتبّا للجمود وعدم التغيير حتى ولو كان في ظاهره جنة النعيم.
وإذا كان هذا الزمن يفعل بالأشياء فعل السحر، فلم التأسف على شيء، ولم شغل الفكر بما لا يفيد! وإنني أرى أن الإنسان إذا أراد أن يعيش حياته هادئا آمنا مطمئنا، فعليه ألا يفكر إلا في يومه، ولا يعيش إلا في ساعته، ولا يشغل باله بآت، ولا يحزن على فائت، وأن يقبل بفلسفة التغيير وما يفضي إليه من نتائج، وصدق رسولنا الكريم عندما قال ” لك في الساعة التي أنت فيها.”