في رثاء يحيى جبر ، بقلم : مجدولين رضا حسونة
لا أُخفيكَ يا أستاذي ولا أبالغ حين أقولُ لكَ إن خبر وفاتك كسر اللغة العربية التي ضممتَ كل معانيها وفصاحتها كأنها طفلتك الصغيرة، وكأنها فرحة كنتَ تشدّ عليها كي لا تفلت من حياة كل الذين أحبوك وأحببتهم، ورفعت من شأنها في قلوب تلاميذك، وفتحت أعيننا على معانٍ كثيرة لم يكن لها محل من الإعراب في حياتنا.
كان حضورك بيننا يفعل فعل الفاعل في الجملة الفعلية، مبنيَّة للمجهول دونه، وإن حضر نائبه. كنتَ ضميرنا الذي وصلتَه بالعلم والمعرفة والأدب، وفصلته عن كل سذاجة وسخافة، وجعلته يخاطب فينا واقعنا ويواجهنا بأنفسنا، ثم لم يقوَ على الغياب بعدكَ فظلَّ متصلاً بك وبكل ما تعلمناه منك.
من اللغة العربية أدخلتَ الوطنَ إلى قلوبنا، الوطن الذي بنوه للمجهول حين احتلَّه عدوٌّ ونهب ثرواتِه صديقٌ، وهو الذي طالما بنيتَه في أعيننا على معلوم وحيد لا ثاني له: “إنه حقنا”. كنا نعرفه جيدًا، ليس فقط لأننا نعيشُ فيه، بل لأن أحاديثك عنه كانت ذات لمسة خاصة تجعله يتسرب إلينا كشربة الماء الباردة في صيف حارّ، في كل نبته فيه اسم معلوم وقصة وربما خرافة قديمة وعشبة ودواء، كنتَ تعلمها جيداً، وفي كل طريق وشارع حكاية جديدة وثقافة ومعرفة نكتسبها منك، وكل حدث جديد مربوط عندك بأسطورة قديمة لشعوب غابرة.
حين كنتُ أجلس معك، كنتُ أجلس مع موسوعة ثقافية لا تنضب، أستمتع بكل دقيقة وثانية، وأكاد أتفجر من فرحتي بفخر ذلك الرجل العلّامة المثقف وثنائه الدائم علَيّ، وقوله لي إنني مختلفة عن كل اللاتي درسن الصحافة، وإنه سيَخرُج مني شيء عظيم ذات يوم.
تعلمتُ منكَ أن أعتز بلغتي وأحاول جاهدة تقويتَها وإن لم أتخصص بها، فأنتَ الذي قلتَ إن “العرب قعدوا بلغتهم حين راحوا يعلمون أبناءهم ظاهرها ولم يتغلغلوا بهم في باطنها الحافل بما ينمي العقل وينتقل بهم إلى آفاق أرحب. إن الدرس اللغوي الراهن عقيم من رياض الأطفال إلى الدكتوراه”، لذلك كنت أتحرق لتكون أول من يقرأ روايتي التي أعكف على كتابتها منذ سنوات، وأناقش معك مواطن ضعفها وقوتها، وأحفظ الملاحظات اللغوية التي ستعطيني إياها عن ظهر قلب.
بعدما انقطعتُ فترة طويلة عن الكتابة التي بدأتُها حين فقدتُ أبي، شعرت حين تلقيت خبر رحيلك أنني بحاجة ماسة إلى أن أكتب إليك كأنك ستسمعني، وكأن الكتابة الطريقة الوحيدة التي يمكنني أن أقول لك بها كم أفتقدك، وفي هذه اللحظة تعززت قناعتي بأن اللغة بنت الفقد والحرمان والغياب، رد الفعل المؤلم على الوجع، لهذا نكتب. وما أوجعني أكثر شعوري بفقدان أبي مرة أخرى، فالصورة الأكثر حضوراً في مخيلتي لك هي صورة الطالبة النجيبة التي تجلس في المقعد الأول في مساق “الأدب الشعبي الفلسطيني” مستمعة إلى كل ما تقوله، تحاول حفظه عن ظهر قلب، وأنا نفسها تلك التي جاءت إلى ذات القاعة مكسورةً متألمةً حزينةً صامتةً، “عزّيتها أنتَ بصمتٍ كي لا تذكّرها بالكلام”.
ها أنتَ ذا تردُّ لي صوتي مرتين، مرة حين فقدتُه عند وفاة أبي وعدتُ إلى الجامعة فتاة مكسورة يتيمة رحل عنها سندها، فأحسستَ بي كأنكَ أبي، ولم تستسلم إلا حين نجحتَ في سماع صوتي، وكنتَ تستفزني في المحاضرة وتسأل الطلاب أسئلة لم يعرف إجابتها سواي، رغم أنهم كانوا طلاب أدب اللغة العربية وأنا الوحيدة طالبة الصحافة، وكلما حاولتُ الإجابة اصطدمت بهذا الخرس الذي تركه لي فقدان أبي. كنتُ أشعر أن الكلمات تصل إلى حلقي وتتوقف هناك كالشوكة تجرحني فلا أستطيع بلعها ولا أستطيع بصقها، وهكذا بقيتَ تحاول وأفشل، تستفزني ويتضخم ذلك الشعور بداخلي، حاجتي إلى الكلام والإجابة عن كل تلك الأسئلة التي أعرفها، حتى نطقتُ على يدك، وأجبت عن أحد أسئلتك التي كانت عن أسطورة الحوت والتنين وأثر ذلك -حسب الأسطورة- في الكسوف والخسوف، وحين فاجأتَ الجميع بسؤال “يعرف جوابه المثقفون” كما كتبتَ في مقالك وسألتَ عن حالة تشبه هذه الحالة، فأجبتك وقتها من فوري بقصة المثل “وافق شِنٌّ طبقة”، وكنتُ أعرف الإجابة مسبقًا، وسمعتها بصوت أبي الذي حدّثني عنها مرةً، ونطقت.
حين خرجَت الكلمات من فمي متقطعة وممزَّقة كقلبي، فرحتَ أنت، وأذِنتَ لي في الخروج، وقتها شعرتُ بدوار كبير، وكدتُ يُغمَى عليّ، وكنت أبكي لأول مرة بعد شهر من الصمت وعدم قدرتي على البكاء، ذلك الصمت الذي منعني حتى من أن أهمس في أذن أبي وهو في النعش آخر كلمة، أن أقول له كم أحببته وكم سأحتاج إليه وكم سيؤلمني غيابه. وبقيتُ غاضبة من نفسي حتى نطقتُ وبكيتُ.
بعد ذلك التقينا في مكتبك بالجامعة، واستأذنتني في كاتبة مقال عني… كتبتَ عني مقالًا بعنوان “هكذا انطلق لسانها.. حكاية مجدولين حسونة الإعلامية البارعة.. حكاية جديرة بالقراءة”، وكنتَ سعيدًا لأنك فعلتَ شيئًا من أجلي، ومنذ ذلك الوقت كنتَ سندًا بكل ما فيك، بلُغَتك وحضورك ودعمك المستمرّ لي وفخرك بي، كأنكَ كنتَ تعوّضني حاجتي إلى دعم الأب.
أتَعلَم يا أستاذي أنني كلما شعرت بحزن من واقع الحياة الذي يرفع السفهاء والحمقى ويهمِّش الأذكياء، عدتُ لأقرأ ما كتبتَه أنتَ عني، وما كتبه البرفيسور عبد الستار قاسم رحمه الله، وغيركما من المثقفين والقادة الوطنيين، وأشعر أنني بخير كبير لأن رأي هؤلاء فقط هو ما يهمني لا غير، فرأي شخص مثلك بي يساوي رأي ملايين المتابعين الحمقى والمشاهير المتذاكين الذين كلما انخفض مستوى أخلاقهم وعلمهم زاد عدد متابعيهم في مواقع التواصل الاجتماعي، إلا من رحم ربي منهم، من يتابعوننا لمعرفتنا أو لشيء نقدمه، أولئك صنعهم العصر الحديث الذي لا تحتاج فيه إلى إلى الكلام بأي مضمون فارغ أو عرض جسدك وحياتك الشخصية، أما أنا فصنعني أمثالك ممن علّموني متى وكيف وبمَ ينطق لساني.
وها أنتَ ذا هذه المرة تُعيدني من صمتي اللغوي إلى الكتابة بذات النهم الذي أشعره حين تصبح أصابعي حُبلى بكلمات وكلمات وكلمات، وقلبي يؤلمني من شدة تسارعها، أنا التي يُخفي الحزن صوتها، وينطق قلمها. حتى برحيلك تحافظ على اللغة العربية في قلوب تلاميذك وأذهانهم.
لا أنسى فرحتكَ بي حين دقّقتَ لي أول تحقيق صحفي كتبتُه وفاز بجائزة عالمية، وحصلتُ بعده على لقب “أفضل صحفية متقصية” على مستوى الدول العربية، من مؤسسة عريقة كـ”تومسون فاونديشن-رويترز”، حينها قلتَ لي: “إن لغتكِ سليمة”، وقبل أي تعليق على محتوى التحقيق، علّقتَ على لغتي وأعطيتني ملاحظة واحدة ما زلتُ كلما كتبتها أتذكرك.
قلتَ لي وقتها: “انتبهي فقط لوجوب كسر همزة (إنّ) بعد القول، ومنذ ذلك الوقت، منذ ثلاثة عشر عاماً، كلما كتبت (إنّ) بعد القول تذكرتُك”.
لو تدري كم كسرني غيابك، وكأنني أصبحتُ همزة “إنّ” بعدما قالوا لي عن رحيلك.
حين أتذكرك الآن أشعر بغصة كبيرة وغضب من واقع تلك “البُنَيَّة” كما كنتَ تناديني “يا بُنَيَّتي”، فكم مرة قبل هذا اليوم خطرت على بالي وعزمتُ على زيارتك، لاشتياقي إليكَ أولًا، ولأنكَ كنتَ ستُريحُني وتهوِّن على واقعي بكلامك ودعمك، وفي كل مرة كنتُ أؤجِّل زيارتك، كأن الحياة ستنتظرني!
لم يبقَ أحد على الرصيف يا أستاذي، معظم الذين أحبوني وأحببتهم رحلوا، أستاذتي وقدوتي والقامات الوطنية. كلما شاهدتُ تلك الصورة التي جمعتني مع البرفيسور عبد الستار قاسم والشيخ خضر عدنان والقائد وصفي قبها أمام سجن الجنيد نطالب بحرية المعتقلين السياسيين، شعرت بوحدة كبيرة وبأنني بقيتُ على الرصيف وحيدة. ثم جاءت وفاة الدكتور جبر خضير البيتاوي أستاذي في اللغة العربية الذي قال لي حين لاحقَتني الأجهزة الأمنية الفلسطينية وحاولَت اعتقالي واعتقلت أشقائي لتجبرني على الاستسلام والانكسار، إن منزله مفتوح لي ويمكنني المبيت عنده في أي وقت.
ثم أفقدني اغتيال نزار بنات صوابي ومزّق مصيره والظلم الذي تَعرَّض ونتعرض له قلبي.
كأن رحيل كل هؤلاء مبتدأ ورحيلك الخبر، فلا تصلح الجملة دون مبتدئها ولا يكتمل معناها بلا خبر.
عذراً أستاذي إن كان في كلماتي ركاكة لا تليق بقامتك اللغوية، فأنا لم أصحِّح هذا النص ولم أعتنِ ببلاغته، فقد كتبتُه قبل أن أتزيَّن بحُلِيّ اللغة وأستسلم لغواية الأدب، كتبته في لحظةِ فَقْدٍ على عجلة من حزني، كأنني أريد أن أقول لك كلمة أخيرة قبل أن يواريَ جسدَك الطاهرَ الترابُ، فنحن كما تعلم، نذرف كلماتٍ يتيمةً وقليلة وغير منتظمة عند رحيل من أحببناهم، وقد تبدو فيما بعد مدهشة، أكتبه وأعلم أن الحب والاحترام الذي أُكِنُّه لك سيبهرك، كما كانت تبهرك تحقيقاتي الصحفية، البعيدة عن الأدب والقريبة من الناس والمظلومين، ذلك أن معظم النصوص التي أدهشتنا كانت بسيطة كوصايا الشهداء، مختصَرة سريعة فيها بلاغة الشعراء، لم يتعبوا في كتابتها، قالوا ما أردوا من القلب، ورحلوا.
أكتب لك هذا النص ليصل إليكَ على سجيَّته الأولى، طاهرًا نقيًّا صادقًا كبراءة طفل في ساعات ولادته الأولى، من روحي التي ما زالت على قيد الحياة، إلى روح أستاذي يحيى جبر التي تحررت من قيدها.