المساءلة التربوية وتحسين نوعية التعليم ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني
لعلّ تقييم المنظومة التربوية لذاتها، وَفق مرجعيات متّفق عليها يُعَدّ تحدّياً جريئاً من خلال إعادة النّظر في المشهد التربوي بمكوّناته كافّة، بما فيها تلك التي نعتبرها من المسلّمات، ووضعها موضع الفَحص والاختبار من منظور استراتيجي ضمن رؤية وطنية، يتمّ من خلالها إعادة تشكيل المخزون التراكمي الكمّي، وإعادة تركيب التكوين المؤسسي بما يفضي إلى التحوّل النوعي للتعليم، ويجعل من غايات البرامج التطويرية في الميدان التربوي معنًى ذا قيمة.
أفرزت المتغيرات المتعددة أبعاداً متشابكة تمثّل محور التحديات أمام النظام التربوي، فتلاشت الحدود في مجالات الحياة كافّة؛ نتيجة تسارع الطفرة المعلوماتية في عصر الإلكترونيات وتقانة المعلومات، وما رافق ذلك من تحالفات استراتيجية وتغييرات تنظيمية تمثّلت بالمسؤوليات والعلاقات والشراكات بين المؤسسات بمستوياتها المختلفة، أو على مستوى المؤسسة ذاتها، التي انعكست على هُوية المؤسسات التربوية ونتاجاتها ودورها العميق في إرشاد الطلبة نحو استشراف المستقبل بكلّ ما يحمل من تحديات وفرص وطموحات متنوعة، سواء في استحداث مهن جديدة وَفق حاجات أسواق العمل على الصعيد المحلي والدولي، أو في بناء الأجيال بمنظور شمولي؛ ما يجعل عملية المتابعة المستمرة، واتخاذ التدابير الاستباقية، وابتكار الحلول الإبداعية للمشكلات ضرورة حتمية؛ لتفادي تفاقم المشكلات، واستفحال أثرها.
إنّ تحسين نوعية النتاجات التعلمية والتربوي يتطلّب التوجه إلى نظام مساءلة يستهدف المنظومة التعليمية التي تُعَدّ مسؤولة عن الارتقاء بالعمل التربوي وتطويره، من خلال ضبط عملياتها، وإدارة المتغيرات الخارجية التي تؤثّر عليها، والتركيز على الكفاءة التشغيلية، ومدى ملاءمة المخرجات في تحقيق الأهداف، والمتابعة المستمرّة لأداء الأطراف ذات العلاقة جميعهم، كمدخل للتحقّق من مدى ملاءمة أدائهم الفعلي، من حيث توظيفهم العادل للصلاحِيات والمسؤوليات المنوطة بهم؛ لضمان تحقيقها الأهدافَ بكفاءة وفاعلية، وتجويد النتاجات المتمثلة في الطلبة؛ باعتبارهم غاية النظام التربوي، ونتاجه الرئيس.
تتمثّل ثقافة المساءلة في النظام التعليمي بمجموعة المعتقدات والتفسيرات والتصورات المشتركة للعاملين حول طبيعة الحياة التنظيمية، وكيفية إنجاز المَهمّات الوظيفية وَفقاً لما هو مخطّط له، واستثارة الشعور الذاتي بأداء الواجبات، وإلزام الأفراد في المؤسسة بممارسات تستند إلى السياسات والنظم والتعليمات المعمول بها، من خلال مجموعة معايير تُعَدّ بمثابة إطار يحتكم إليه العاملون؛ باعتبارها أنظمة حاكمة يحترمها الجميع، فالمساءلة تعزّز المسؤولية الفردية عبر معالجتها الحقائقَ بشفافية، وفي الوقت نفسه تُعَدّ آلية لضبط الأداء؛ لتحقيق مستوى متميز للنظام، وإحداث قيمة مضافة في تقويم المؤسسات التعليمية.
إنّ الحكم على فاعلية المنظومة التربوية يتمثّل بمدى قدرتها على تحقيق الأهداف المخطّط لها على الأقلّ، من خلال التركيز على أساليب الاستثمار الأمثل الحكيم والمتوازن للإمكانات والموارد المتاحة داخلياً وخارجياً، مع تأكيد قدرة المؤسسة على الارتقاء بذاتها وعلى درجة تفاعلها مع البيئة الداخلية والمحيطة كمعيار للحكم على فاعليتها، بما يحقّق نتاجات التعلّم والوفاء باحتياجات المستفيدين من جهة، وتحقيق الشرعية الاجتماعية كمؤسسة تربوية من خلال تلبية حاجات العاملين المهنية والوظيفية والاجتماعية من جهة أخرى.
وتُقاس فاعلية المؤسسات التربوية بمدى انعكاس عملية التعلّم والتعليم على سلوك الطلبة، وتفاعلهم الاجتماعي، وتمثّلهم قيمَ المواطنة، جنباً إلى جنب مع مدى امتلاكهم المعرفةَ الأكاديمية، ولا تُقاس بكثرة الجهد المبذول، وكثرة اللّجان والاجتماعات والوقت المستغرق في إنجاز المَهمّات، بل على العكس من ذلك، فالكفاءة ترتبط بإمكانية الاستفادة القصوى من الموارد البشرية أو المادية لتحقيق زيادة في نتاجات التعلّم المتوقعة بجهدٍ وتكلفة أقلّ، ويتطلّب ذلك نمط تفكير وَفق منهج علمي لقيادة المؤسسة بمستوياتها كافّة، تركّز على التفكير الابتكاري والإبداعي المستند إلى تشخيص دقيق للواقع التربوي، وتشجيع العاملين على المشاركة في صياغة رؤية المؤسسة وعمليات التخطيط وصنع القرارات، ويعمّق معاني الرقابة الذاتية.
شهد النظام التربوي في فلسطين عديداً من المحاولات لترسيخ نظام المساءلة التربوية، من خلال الاختبارات الوطنية والدراسات، إضافة إلى تشخيص كلّ ما يتعلق بالعملية التعليمية التعلّمية بمصادرها (البشرية والمادية)؛ باعتبار أنّ المدرسة تمثّل البناء المؤسسي والتربوي والاجتماعي الذي ينشأ فيه الطلبة، ولهم الحقّ اللازم في تنمية إمكاناتهم المعرفية والاجتماعية والعاطفية وَفق خصائصهم وسماتهم، وصقل شخصياتهم، وحيث إنّها وحدة متكاملة لها مهامّها ومسؤولياتها، فإنّ ذلك يتطلّب عملية تفحّص وتشخيص لواقع المدرسة بين الحين والآخر؛ للتحقّق من مدى فاعلية الأداء فيها، وكفاءته، من خلال التركيز على نتاجاتها بمنظور شمولي، ويُعَدّ التقويم الشامل أحد أساليب المساءلة لتحقيق هذا الغرض وَفق آلية علمية واضحة ومحددة ومُعلن عنها تشمل التقييم الذاتي للمدرسة من خلال تقييم العاملين فيها لفاعليتها، بالإضافة إلى التقييم الخارجي من فريق متخصّص من مديرية التربية والتعليم، وهو ما عُرِفَ بالمتابعة الشاملة.
تُعَدّ المتابعة الشاملة بما توفّره من نتائج التقويم المعتمد على نتاجات المدرسة التربوية والتعليمية، الركيزةَ الأساسية لخطة تحسين الأداء الهادفة إلى النهوض بالواقع التربوي في مدارس الوطن، من خلال تقييم تحصيل الطلبة، وملاحظة أدائهم باستخدام أدوات التقويم الواقعي في الجوانب المعرفية والاجتماعية العاطفية، وتقييم فاعلية الإدارة المدرسية، ومدى ملاءمة البيئة المدرسية كحاضنة للتعليم، وكفاءة أداء الهيئة التدريسية والعاملين في المدرسة، وفاعلية دور أولياء أمور الطلبة.
يتشكّل فريق المتابعة الشاملة في كلّ مديرية وَفق معايير محدّدة تلائم المسؤوليات الموكلة لها، وتخضع هذه الفرق إلى برنامج بناء قدرات وتأهيل خاصّين لهذا الغرض، حيث تُزار المدرسة الواحدة زيارات عدّة تعتمد على بيانات نتائج الزيارة الأولى كأساس، وتكون الزيارات التالية لأغراض متابعة النتاجات التراكمية لفاعلية الأداء المدرسي، وتتّسم كلّ الزيارات بالشمولية بواقع (3- 5) أيام متواصلة للزيارة الواحدة وَفق حجم المدرسة وخصوصيتها، وتُصنَّف حاجات المدارس للتحسين، استناداً إلى أداة تقييم تشمل محاور المدرسة كافّة، مع مراعاة أنّ الفريق الزائر يجمع بيانات قبلية عن المدرسة من الأقسام المختلفة في مديرية التربية والتعليم، إضافة إلى البيانات الواردة من المدرسة وَفق نموذج التقييم الذاتي المدرسة، وبعد الانتهاء من الزيارة تُحلَّل البيانات ونتائج التقييم، وتُقدَّم لقيادة المديرية؛ لإجراء التدخلات اللازمة من جهات الاختصاص الداعمة للمدرسة، وبهذا تتكامل الأدوار بين عمليتَي المساءلة، والتحسين التربوي.
وتُعَدّ المتابعة الشاملة بما توفّره من دعم للشفافية والتعاون، واحدة من الأساليب المهمّة التي تحفّز ذوي العلاقة بالعملية التعليمية للتحسين والتطوير المستمرين للأداء، وتساعد على تحقيق كفاءة المدرسة، وضمان جودة الإنجاز، وتوفّر فرصة التوجيه السليم للبرامج المستقبلية المبنية على الحاجات، استناداً إلى أسس الشراكة والتواصل البينشخصية (الثقة، والتمكين، والتأمل) بين العاملين كافّة، سواء على مستوى فريق المتابعة وقيادة المديرية من جهة، وإدارة المدرسة المستهدف متابعتها والعاملين فيها من جهة أخرى، واحترام وجهات النظر المختلفة، بما يساعد في إجراء التطوير والتحديث المنشود في عناصر العملية التعلّمية التعليمية جميعها.
يُعَدّ التفكير النقدي المنظّم في المجال التربوي أولوية في تكوين المعتقدات، وإنّ الحصول على معلومات قطعية تجريبية يُعَدّ غاية في التعقيد، ولا نختلف على الحاجة إلى تطوير النظام التربوي بما يمثّله من رأسمال فكري قادر على استشراف المستقبل، وتحقيق الأمن القومي والسلم الاجتماعي، وتلبية احتياجات المجتمع الفلسطيني وخصوصيته كشعب محتلّ يتطلّع إلى المساهمة بدور كبير في الإنتاج المعرفي على المستوى الكوني، وفي الوقت نفسه تعظيم عوامل قوّة المجتمع وتماسكه، والاهتمام بالسياقات الحياتية، ومواجهة التحديات، ومشاركتها الأجيال بجرأة وموضوعية من خلال توفير مِساحة كافية من الممارسة الديمقراطية للمشاركة في البناء على أساس الالتزام بالمسؤولية الجماعية، وأنّ المساءلة التربوية ضرورة حتمية؛ للارتقاء بالنظام التعليمي بمكوناته كافّة.
ونظراً للتكلفة المتزايدة؛ نتيجة النموّ الطبيعي للسكان، وفي ظلّ تفاوت الموارد المادية وتوفّرها، وتراجع في القواعد التنظيمية، والسعي نحو سيادية التعليم الفلسطيني، والوعي بضرورة ضبط نوعية التعليم ونتاجاتها، والمقارنة مع أنظمة تربوية استطاعت النهوض والارتقاء بعملية التعلّم والتعليم، وتحقيق الرفاهية لمجتمعاتها، وتنامي أهمية التعليم على المستوى الاجتماعي بما يحقّق الطموحات، وغيرها، فإنّ إيجاد نظام للمتابعة وللمساءلة التربوية منفصل وبهيكلية موازية أضحى قضية ملحّة ومهمة في الوقت نفسه، يهدف إلى تشخيص الواقع التربوي ودراسته في المدارس دراسة شمولية؛ للوقوف على نقاط القوة وتعزيزها، وتحديد نقاط الضعف؛ للنهوض بها، وتجاوزها، وفي الوقت ذاته إيجاد نظام حوافز يشجّع الإبداع والتميّز؛ انسجاماً مع مبدأ التعلّم للتميّز، والتميّز للجميع.