الفقعاوي يعلق الجرس، غسان كنفاني المعضلة التنظيمية والرؤية السياسية (1) بقلم : غسان أبو نجم
أنهى الرفيق الدكتور وسام الفقعاوي رئيس تحرير مجلة الهدف نشر دراسة غسان كنفاني التركيب التحتي للثورة وثيقة عن السلاح التنظيمي، والتي وضعها الشهيد غسان كنفاني عام ١٩٧١ وأعاد نشرها الرفيق وسام، ضمن حلقات على صفحات الهدف، بلغت ست عشرة حلقة مقسمة إلى جزئيين؛ الأول: احتوى على خمس حلقات وحمل نفس اسم الدراسة.
والثاني، احتوى على أحد عشر حلقة حملت عنوان: “المقاومة ومعضلاتها كما تراها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” وتعد استكمالًا لنفس الدراسة قبل البدء بتحليل ما ورد في الدراسة وجب التنويه لقضيتين هامتين:
الأولى: دقة وأهمية تناول ما كتبه الشهيد غسان كنفاني في هذا التوقيت بالذات من قبل الرفيق وسام الفقعاوي وما له من أثر؛ لإعادة صياغة برنامج تنظيمي وسياسي لعموم حركة التحرر العربية بشكل عام، والفلسطينية بشكل خاص، في ظل حالة التراخي والتراجع الذي تشهده هذه الحركات وتراجع قوى اليسار عمومًا، وعجزها حتى الآن، في قيادة دفة الصراع ضد قوى الإمبريالية والاستعمار.
الثانية: أظهرت الدراسة وبعد مرور ما يناهز الخمسين عامًا على وضعها؛ أنها تحمل في طياتها برنامجًا سياسيًا وتنظيميًا، غاية في الأهمية، وتعكس وعيًا بمركبات الحاضر وقدرة على تفكيكه، مما يظهر العجز التطبيقي العملاتي لهذه النظرية وكسر أهم حلقاتها الثلاث، كما أورد غسان، وهي الممارسة.
لعل من الانصاف والضرورة قبل الشروع في مناقشة محتويات هذه الدراسة، أن نلفت الانتباه لمسألة غاية بالأهمية، وهي أن تجربة غسان الحزبية، إضافة لإبداعه الأدبي، قد أسقطت مقولة: أن المبدع من الخطأ أن يكون حزبيًا، وأن الحزب يحد من الإبداع، وهذا ما روجته وتروجه ثلة ليس بالقليلة من مثقفي الطابور السادس الثقافي. لقد أثبتت تجربة غسان كنفاني الإبداعية، أن المبدع هو المتسلح بنظرية ثورية التي تسهم في صقل إبداعه وتطويره، وأنه ملكة لا يطورها إلى عمل جماعي مستند إلى مفاهيم ثورية وأسس نظرية، الممارسة العملية. ولعل عمل غسان كصحفي ورئيس تحرير لمجلة الهدف وعضويته في اللجنة المركزية للجبهة الشعبية ومهمته كناطق رسمي باسمها، إلى جانب كتاباته في الأدب والرواية والقصة والرسم دليل قاطع على زيف هذه الرواية.
في الجزء الأول من الدراسة، نجد أن غسان أدرك وفي وقت مبكر أهمية أن يكون هناك حزبًا ثوريًا؛ يقود الجماهير، يعلمها ويتعلم منها، وأن يتسلح هذا الحزب بنظرية ثورية، ويكون بمثابة الناظم بين النظرية والجماهير، وضرورة أن يتصدى لمطالب الجماهير الشعبية؛ الحاضنة الأم له، ويقودها على قاعدة الالتزام الحديدي بالأسس النظرية وقواعد المسلكية العملية، بعيدًا عن الاستعراض والتسلط والفوقية والشللية، مع توسيع دائرة الحوار الديموقراطي داخل الحزب، والالتزام بمركزية قراراته، وهذا يعكس الفهم العميق للأسس اللينينية لبناء الحزب والإدراك الثوري لأهمية تصليب وتجذير مواقف الحزب النظرية والعملية التي ستؤدي إلى تأسيس موقف سياسي متجذر وملتصق بإرادة وطموحات الجماهير التي يرى فيها غسان وقود الثورة وغايتها.
إن هذا الفهم لدور الحزب وعلاقته مع الجماهير والانضباط الصارم لأعضائه على الصعيدين الداخلي، وعلى صعيد التعامل مع الجماهير؛ كفيل بأن يحقق غاية الحزب في قيادة هذه الجماهير، وهذا الفهم اللينيني لدور الحزب يبرز دور المثقف الحزبي في صياغة برامج الحزب السياسية وتصليب أهداف الثورة وغاية الجماهير في التحرر والديموقراطية.
لقد استطاع غسان كنفاني أن يترك أثر فهمه النظري للماركسية اللينينية على إنتاجه الأدبي والسياسي؛ فدراسة ثورة ٣٦-٣٩، أظهرت عمق إدراكه للتركيبة الطبقية للمجتمع الفلسطيني ودور الطبقة في رسم الموقف السياسي الفلسطيني ومدى تحقيقها لمطالب الجماهير الشعبية، كذلك رسم غسان ملامح البرنامج السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي شغل عضوية اللجنة المركزية فيها، وفي العديد من رواياته كأم سعد ورجال في الشمس وغيرها التي وجهت الجماهير إلى ضرورة الثورة ضد الاحتلال وأن لا بديل عن تحرير فلسطين.
ولعل عمله رئيسًا لتحرير مجلة الهدف؛ المجلة المركزية للجبهة الشعبية، أسهم في نشر الوعي السياسي لدى الجماهير العربية والفلسطينية، مستخدمًا المجلة كمنفاخ ثوري، كما أسماها لينين، ولا يدرك هذا الدور للصحافة، إلا مثقف حزبي يستند لنظرية ثورية.
عاش غسان حياته القصيرة بحساب السنين معلمًا ومتعلمًا، كما وصفه الدكتور جورج حبش، ومتنقلًا بين المهام الحزبية الجمة التي ألقيت على عاتقه، وساهم في صياغة البرنامج السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؛ مستلهمًا تجارب الثورات العالمية، وتحديدًا الفيتنامية والصينية التي اعتبرها غسان أكثر عمقًا والتزامًا من التجربة الستالينية، وأشد تعبيرًا عن مصالح الجماهير؛ منتقدًا التطبيق الميكانيكي والنسخ الفج لتجارب الأحزاب الشيوعية للتجربة السوفييتية، متسقًا بذلك مع رؤية جرامشي في دراسة واقع الثورات على الصعيد العالمي وضرورة خصوصية كل ثورة ودراستها على هدى النهج الماركسي واستنباط الدروس من هذه التجارب كل على حدى، وأن التجربة اللينينية هي إحداها، إلى جانب التجارية الماوية والفيتنامية، وهذا بتقديري يكشف عمق إدراك غسان للنهج المادي التاريخي للماركسية، ومدى قدرته على الاسترشاد بذلك باعتبار النظرية دليل عمل، خلاصة هذا الفهم في دراسة واقع حركة التحرر العربية والفلسطينية، وأكد أن البرنامج السياسي للحزب الثوري الفلسطيني، يجب أن يحقق مصلحة الجماهير التي ترى أن تحرير فلسطين واستعادة ما اغتصبه الكيان الصهيوني الإحلالي للأرض والمنزل ووسيلة الإنتاج، وهذا الهدف يجب أن يعمل عليه الحزب؛ كوادر وهيئات، بشكل متسق، وتعميق الحوار الديموقراطي الداخلي؛ لتصليب موقف الحزب وتطوير برنامجه السياسي، بما يتناسب مع تحقيق الأهداف السياسية.
إن هذا الفهم الواعي لدور وأهمية الحزب في قيادة الجماهير وتحقيق الأهداف السياسية التي تطمح لها ينقلنا إلى الجزء الثاني لهذه الدراسة، والتي وضع فيها رؤية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين السياسية على الصعد الإقليمية والعربية والعالمية.