عاد المطر من جديد يطرق نوافذ أفكاري، يهطل مبللاً ورق انتظاري، في الشتاء، تمتلئ آبار نبضي وتروي سطوري إيذاناً لحين العودة من بعد الفراق -كي ننسى حزناً- حتماً، سنحتاج لحزنٍ أكبر منه، وكذلك الحب أيضاً. قارصة تلك اللحظة عندما نكتب الهوى وعداً ينهينا، ألا يا رجل السُّحب كن مطرا،ً بل ريحاً صرصرا،ً فبكل عنف الشِّتاء؛ أحبُّكَ. وبكلِّ ما لديَّ من أنين، حنين، حزن، ويقين أهواك أملاً. هكذا رحيل الأحبة، يُنبت في الأعماق أشجار الوجع الذي لا يُكتب له الموت ، وعندما تُمطر، يشتاق الدمع إليك، شتاءً حزيناً.
وعندما أحدّق في صورتك، تبرق الدنيا، ولا أرى في السَّماء سوى عينيك الحالمتين. وعندما يرعد صوتك في أُذنايَّ بكلمة “أحبك”، تهطل من شفتي حروف اسمك العذب بعذوبة المطر ليلاً، حينَ يُداعب زجاج نوافذ قلوب العشاق، ويرسم الكلمات مبلّلة على سطور الحنين، شوقاً للقاءٍ حميمٍ، يستره الليل. أحب المطر، وأفتقدك أكثر، يا مظلة عمري القادم. لم أزل أحب المطر برفقتك، والاختباء بمعطفك، يا كل الرجولة، أين أنت من هذا الشتاء؟
ابكي أيّتُها السماء، وأسقطي الخير، لتكتسي به جميع أوراقي، أغدقي عليّ الإلهام حروفاً ثلجيةً، أهديها لمن اشتقت إليه قبل الفراق، وازرعي أجمل الكلمات على سطور ذاك الرجل الشتائيّ، لعل عينيه تسقط بغير الصمت صراخاً عاتياً، كصوت النَّار المتوهجة فوق شفتيه، لعل الشتاء يدوم كما أنّ حبهُ سيدوم حتى الموت في قلبي.
ليس أجمل من الحيرة بعزَّة نفس حين تغادر الشمس الذَّهبية مستسلمة مودعةً السَّماء، فيتلاشى كبرياؤها أمام سنة الله وقانون الليل، تلبس الأسود مرصَّعاً بالمرمر والمرجان، تختال باللؤلؤة الكبيرة – قمري- ثم تقاوم الزَّمن وتظلُّ منتظرةً بزوغ الفجر المنتصر، كي تخلع ثوب الهزيمة السوداء، وتشرق نوراً من جديد- ما أروع التَّضاد في حياتنا.
كأنّهُ دفتر جديد لم يحمل كُنية بعد، أتحسس أوراقهُ البيضاء، وبصري هناك حائراً، ينثر القلم عطر اللِّقاء، منهمراً بكبرياء، مازلت أنتظر قدومه ورعشة اسمه تزخرف دفتر أيامي القادمة، حرفٌ يعانق الآخر على موسيقى الحنين، تتشكل الكلمات لتولد أجمل السطور، صفحة تسابق الأخرى، فينمو جسد النص متمايلاً في رياض الأبجدية ليُكمل الكتاب حكاية قلب، وأحلام كنجوم السماء، بل حقيبة سفر فارغة لا تتسع للآتي، وقلم حبر ذهبي تمنيَّت لو قدمهُ لي ذاك الرجل، كبعثرة للروح، وعواطف تائهة على نوتة سطور أحرفي الخائفة، تتسلل كلماتي وفنجان قهوتي المرّة، ها قد عاد بعد طول غياب، عاد ليُحاور شفاهي شوقاً للشِّتاء.
في الصَّباح، تشرق آمالي بلقائك، وتعطيني دفء المحبة، أقطف وردة من روض الكلِم لأجلك، والندى يرسم النَّبض رسالة تروي الهوى. أنتظرك في محطات يومي الهارب بحثاً عنك في وجوه البشر، ويأتي المساء كي تغرب الشمس من جديد، وأنا مازلت مع وردتي أنتظر تقاسيم وجهك، فأين ظل أبي المتجسد بحقيقة شخصك، وأين المطر؟
عندما تبرق الدنيا، ويستنير الظلام، أذكر مقلتيك المشتعلتين، وأتذكر تلك الاعترافات، والبسمة الأسطورية، فيُسرع قلمي راسماً تلك الملامح على ورقة بيضاء، ثم يأتينا الشِّتاء غزيراً كما كان الكلام وفيراً بيننا، فيمحو جميع ما كتبت، ويتلف الورقة كما لا أثر لكل ما قلناه بالأمس. أبقى وحيدة خلف نافذة الإنتظار، أتلذَّذ بموسيقى المطر، وأسأل قطراته: أما زال يشتاق المطر وكلماتي؟
أخبريني يا موسيقى المطر، ويا إيقاع البرد، ماذا تُخبّئ ليّ أقدار السماء في هذا الشتاء، وابعثي لي مع الريح رسالة على أوتار الحب وتلاقينا، قولي له مساء الشمس خجولة بين غيم عينيه كما الأمس لم يجهض سوى الصمت، ومطر اليوم المحتبس على باب شفتيه الساكنتين، أجري الدمع من مقلتيه الحائرتين فرحاً، إنني في الطريق إليه، بضع كلمات فقط ويكتمل السطر الأخير، ويُدّون القلم قصة حب كبير.
أتراه يحبني يا قطرة المطر كما عشقته، أخبريني أرجوكِ ماذا قال والبسمة تملئ شفتيه، وشمعتَي أمل اللقاء تُضيء عينيه، والدفء يتقدّ بين ذراعيه جمراً أحمراً، لا تُخفي سراً وقولي لي كيف لا أحبه وهو المطر. لم يبقى لي سوى الشِّتاء، وعينيك حبيبي. أخبريني أيتها القطرة، هل يشتاق لارتشاف القهوة برفقتي؟ وكيف يطيب له الطعام بصحوتي سهاداً؟ أدليني عن درب يُبصرني الآتي فأبصره دون جوى، واسقطي رعداً مزلزلاً على جسدي، وبرقاً يحي أملي، فالله يُقدّر لنا ما شاء ويختار وما علينا سوى التسليم للأقدار.
ما أجمل أن تبتسم على فراش الموت، قائلاً: الحمد لله، يا نجوماً زيّنت ثوب الليالي بأجمل الحُلل، عذّبي قلبي كما تشائين، واحضنيني، و اعلمي سرَّ انفعالي، فلسوف أناجي الله ربي ذا الجلالِ بخضوعي و لجوئي و سؤالي، فكل الأحداث قضاء وقدر.
يا قمري الغالي، عندما يأتي الشِتاء، تقرع طبول أبجديتي طقوساً من الشوق حميماً، أذكرك وأتذكرك بـأدق تفاصيلك. في الشِّتاء يا صديقي، أتنفس الحنين، وأشعر كأننيِ نجوت، ومازلت رغم البعد على قيد الحياة. دائماً أحببت الشتاء برفقتك يُبللني، وأختبئ في معطفك، لقد عاد الشتاء رغبةً في لقاءك. أجدني أضحك وأمرح متراقصة في المطر، ومظلَّة أمنياتي، أنتظر ويصعب انتظاري، وضباب الخوف يحتضن الآتي، جسدي تراب وعيوني الزَّهر، صوتي نسج القلم الساكن فيك، تاريخي توليب أحمر، دموعي قطرات الندى، فأخبرني، متى ستعود؟ الآن، أنا ومظلة ذكرياتي نسامر الشوق، فقد عاد الشتاء يا حبيبي ولست معي، أمطرت السماء ولم تكـن بين أضلُعي، وانهمر الكلام برَداً من شفاه التوَّجع على نافذة الاحتضار، زفرات حميمة تكتب الهوى، ومعزوفة روحي تسأل: أين أنت ؟ ومتى ستعود ؟ ارجع إليَّ حبيبي، فأجراس الوداع تقرع، وحقائب السَّفر تُجمع، وكل المآذن تشهد ذبول الورد يا حبيبي.
موسيقى المطر تعزف على وتر الذِّكريات مقام السَّفر حبيبي؛ تعال في حضني باكياً، شاكياً القدر، ناحراً لضعفي بتلك المقل. قوّي عزيمتي، وأفرغ سم الفراق في جسدي، وعداً بلقاءٍ معك قادم يمحو الدمع على وجنتي، لربما عدِلت عن السَّفر، وبدَّلت أحكام البشر.
أدمنت هواك، حتى تورطت في ذاتك. أيها الملاك: قل لي كيف بمقدوري أن أنساك؟ أعجبني في صمتك، وقتلني هدوء شفتيك، أنصتُ غارقةً مترقبة أول زلَّة لسان لك، كي تخبرني بما أنا متشوِّقة لسماعه منك، أدعو ربَّ السَّماء أن يهدينا المطر، فويلي من الحرمان، وقدر يسلبُني كل ما كان.
أتدري، عندما يعزف القلم لحن الشَّوق ونغم المطر، تتكاثر سطور كلماتي المبلَّلة على أوتار الحنين موسيقى دافئة لمساءٍ حميم يجمعنا، تحكيه أنفاسنا قبل الفراق. لو تدري عندما أذكرك طيفاً ماراً من أمامي، يكبر في أحشائي الخوف شديداً مما يسطره القلم فيك كل ليلة، وأكتشف بعدها أن حبي معك يكبر. أزهرت في نبضي أبجدية المجد لأسطورة لن تكون لسواك، فهل سأقوى على وداعك حينما نلتقي؟
إنها تُمطر حبيبي، عشقي يكبر، وأملي يكثر. مع كل هطول جديد، أتذكر غدي، ويحملني الصَّمت فوق الغَّيم كي نتسامر، والشِّتاء على طاولة من بقاء. عندما تُمطر، أشيح السِّتارة عن نافذتي، وأخرج يديّ لكي أجمع من تلك القطرات العذبة كؤوساً من الشَّوق أهدتني إيّاها السَّماء، وعطر التُّراب يتخلل جسدي، ثملةٌ في وطنٍ غير الوطن، أنظر الغيم ضاحكاً يسألني الكفاية، وطمعيِ يطلب المزيد فيُمطرني الله أكثر، حبراً وفيراً ينهيِ أوراقيِ لأكتب على كفك كلمة واحدة فقط، أحبك وكفى!