الدولة الاستعمارية العميقة ورفع العتب عن نسختها (اسرائيل) بقلم : موفق مطر
لا يحتاج المرء الى كثير من العناء لفهم مقاصد الخطاب السياسي الرسمي الأميركي، فمنطق الادارة الأميركية أيا كان لونها حمراء لحزب الجمهوري ورمزه الانتخابي الفيل أو زرقاء للحزب الديمقراطي ورمزه الانتخابي (الحمار) يفصح تلقائيا عن محتوى المرجعية الناظمة لسياسة الولايات المتحدة الأميركية الخارجية عموما، والمتعلقة بالحق الفلسطيني (القضية الفلسطينية) خصوصا، فقواعد وقوانين منظومة الدولة الاستعمارية العميقة كانت ومازالت المرجع الأساس للإدارات الأميركية المتعاقبة، وأهمها ابقاء منطقة الشرق الأوسط بما فيها الدول العربية، ومركزها الاستراتيجي الأهم فلسطين تحت عدسة مجهر مراكز التخطيط والقرار لهذه الدولة العظمى التي مازالت تعتقد بإمكانية السيطرة والهيمنة على أهم المناطق الحيوية الاستراتيجية في العالم عبر سياسات تؤدي لإخضاع شعوبها ودولها باستخدام الوسائل المنافية لقيم الديمقراطية والحريات والعدالة التي يتخذها رؤساء الولايات المتحدة الأميركية كمخدر دخاني سريع الانتشار، للتمويه على الأهداف الحقيقية وملخصها حفظ مصالح الامبراطورية الأميركية الاقتصادية والأمنية واستمرار نفوذها حتى لو كان ثمن ذلك تدمير دول عظيمة بشواهدها وارثها الحضاري كالعراق مثلا! أو مسح تاريخ وحاضر ومستقبل شعب فلسطين، الذي ساهم بشكل فاعل في رسم ملامح المنطقة الحضارية في شرق البحر الأبيض المتوسط، بمؤامرة رسمت تفاصيلها في وثيقة كامبل سنة 1905 وبدء بتنفيذها سنة 1917 بوعد بلفور الأميركي مضمونا ونصا حرفيا، البريطاني شكلا.
لن نقلب سجل الدولة الأميركية الاستعمارية العميقة، ولا بسجل نسختها المصغرة (اسرائيل) فكلاهما انشئ على فكرة ابادة شعب وسلب ارض وطنه، وكلاهما استخدم الدين مثل شعار (ارض الميعاد) لتحقيق الأهداف، لأن أحدث مثال شهدنا عليه كان خطاب وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن على منبر منظمة (ايباك) الصهيونية في العاصمة واشنطن، التي تبقي النسخة الاستعمارية العنصرية (اسرائيل) ليس على قيد الحياة وحسب، بل الأقوى في الشرق الأوسط، فهناك ادار بلينكن اسطوانة الدولة الاستعمارية (المشروخة) بالنسبة لنا عندما رمى على اسماع الحضور ما أراد ايصاله لنا وللأشقاء العرب كلاما سمعناه كثيرا ملخصه “دعم الولايات المتحدة لحل (قيام) دولتين إسرائيلية وفلسطينية، لتسوية النزاع في المنطقة التي تشهد دوامة عنف جديدة” وكالعادة ساوى بين الجلاد والضحية، وبين المشرع الاستعماري الاحتلالي العنصري الصهيوني، وبين الشعب الفلسطيني صاحب الحق التاريخي والطبيعي بأرض وطنه عندما دعا “الطرفين إلى “احتواء التصعيد والامتناع عن اتّخاذ تدابير أحادية تزيد التوترات وإلى تحسين ظروف المعيشة اليومية للفلسطينيين” وكأن بلينكن الديمقراطي وزير خارجية في ادارة دونالد ترامب الجمهوري الذي احرقنا خطته الاستعمارية الجديدة ونثرنا رمادها على وجهه، لاعتماده الحل الاقتصادي على حساب الحل السياسي وأقله قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية. وفي المقابل تحدث عن الدعم للنسخة الاستعمارية (اسرائيل) بالمليارات سنويا وأسلحة اميركية متطورة جربت قدراتها التدميرية على ارضنا وشعبنا الفلسطيني، قبل أن يجربها (البنتاغون) فعليا في أي مكان آخر في العالم، وزاد عليها مليار دولار لتطوير سلاح القبة الحديدية، أما “الأمن القومي الأميركي” فقد ربطه بتوسيع دائرة ما سمي (اتفاقات ابراهام) بين دول عربية ومنظومة الاحتلال والاستيطان والعنصرية (اسرائيل) وهو مشروع أشهره الفيل الأحمر (دونالد ترامب) لكنه هذه المرة ركز على “تطبيع بين اسرائيل والسعودية”. وربما ادرك سريعا وهو يخاطب (الايباك) أن الأمر مرتبط بصاحب المبادرة العربية للسلام التي اصبحت واحدة من المرجعيات الأممية للحل، وأن المملكة بحكم تاريخها ومكانتها وسياسة ملكها، وسياسة ولي عهده المنفتحة على اتجاهات الدول الكبرى وتحريرها من حصريتها مع الولايات المتحدة، وكذلك التباينات مابين ادارة بايدن والمملكة، والأحدث في التطورات استعادة علاقات الرياض مع طهران ما دفعه للقول: “ليس لدينا أي اوهام لجهة إمكان القيام بذلك سريعا او في شكل سهل!”. ولم يغفل عن التلميح للمبادرة العربية وتأكيد القمة العربية على ضرورة تطبيقها قبل التوجه الى علاقات طبيعية مع (اسرائيل) ونعتقد أنه فعل ذلك من باب المجاملة الدبلوماسية قبل زيارته للرياض بيومين عندما قال: “إن جهود تطبيع العلاقات بين دول عربية وإسرائيل يجب ألا تكون بديلا لتحقيق تقدم بين الإسرائيليين والفلسطينيين ويجب ألا تبذل على حساب ذلك”.. لكن بلينكن ككل وزراء الخارجية ورؤساء الولايات المتحدة السابقين لم يوضح المقصود من “التقدم” الذي لم يعد خافيا علينا وهو العودة الى طاولة المفاوضات، وبدء دوران جديد في حلقة مفرغة وهو ما ترفضه القيادة الفلسطينية، عندما طرح الرئيس ابو مازن بدائل عملية منها مؤتمر على المستوى الدولي تكون مخرجاته التطبيق الفعلي والعملي لقرارات الشرعية الدولية الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، التي اكدت جميعها على حق الشعب الفلسطيني بقيام دولة مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية .
سيبقى المعيار لقياس مصداقية سياسة واشنطن هو التزام الولايات المتحدة الأميركية بقرارات الشرعية الدولية وتطبيقها بعدالة، وكذلك الدول المتنفذة الكبرى في الاتحاد الأوروبي التي تسير في فلكها، والكف عن سياسة ازدواجية المعايير، واتخاذ اجراءات عملية ضد منظومة الاحتلال والاستيطان والعنصرية الفاشية كما فعل العالم مع منظومة جنوب افريقيا العنصرية البائدة، والضغط على اسرائيل بدل تركيز 99% منه على القيادة والشعب الفلسطيني، فيما المتبقي على (نسختهم) كلام رفع عتب لا أكثر.