للنكبة الفلسطينية روايتان : الأولى حقائق والثانية محض أكاذيب ، بقلم : تيسير خالد
كشفت دولة إسرائيل في ثمانينات القرن الماضي عن بعض الوثائق من أرشيف الدولة ، وأرشيف الحركة الصهيونية ومنظماتها في فلسطين الانتدابية قبيل النكبة الفلسطينية وأثناءها وفي السنوات التالية لتأسيسها . وكانت تلك فرصة ثمينة لعدد ممن أصبحوا يعرفون بالمؤرخين الجدد في اسرائيل أمثال بيني موريس وآفي شلايم ، وإيلان بابيه وشلومو زاند وغيرهم للبحث في نكبة الشعب الفلسطيني وما رافقها من مجازر شكلت القاعدة الأساس لسياسة الترحيل والتهجير والتطهير العرقي ، التي رافقت نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948 . كان دخول المؤرخين الجدد في اسرائيل على الخط فاتحة توجّه لدى بعض الإسرائيليين ، الذين أخذوا يشككون في الرواية الصهيونية .
وقدمت هذه العملية المحدودة العون كذلك لنشاط جمعيات أهلية اسرائيلية كجمعية ” زوخروت ” اليهودية المختصة بالرواية التاريخية الفلسطينية وأطلقت دون شك بواكير عمل تأريخي جديد ، في مواجهة التيار الإسرائيلي المركزي ، الذي كان وما زال يرفض الرواية الفلسطينية عن النكبة . جن جنون قادة دولة اسرائيل والحركة الصهيونية وعادت عملية التعتيم والتكتم على ارشيف الدولة وأرشيف الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية بعد ان تم توجيه التهمة للمؤرخين الجدد بأنهم ذبحوا البقرة المقدسة .
على الجانب الفلسطيني ، يجب الاعتراف ونحن نحيي الذكرى الخامسة والسبعين لنكبة الشعب الفلسطيني ، التي تزامنت مع قيام دولة إسرائيل ، أننا قصرنا في التصدي للرواية الإسرائيلية حول النكبة التي حلّت بالشعب الفلسطيني ولم نقدم روايتنا نحن لهذه النكبة كما حصلت بالفعل .
من الواضح أن للنكبة روايتين : واحدة إسرائيلية اعتمدت الكذب وتزوير الحقائق منهجاً ، والثانية فلسطينية تم تجاهل أحداثها فعلا ؛ مقدماتها وتداعياتها ، وغابت عن اهتمامات الرأي العام العالمي لاعتبارات متعددة ليس أقلها شأنا أن العالم كان قد خرج للتو من أهوال الحرب العالمية الثانية وما رافقها من جرائم ارتكبها الوحش النازي ، وألقت بعد سنوات معدودة بظلالها الثقيلة على جرائم كانت من صنع ضحايا النازية الهتلرية.
بنت (إسرائيل) روايتها على مزاعم تاريخية توراتية اعتمدت الأساطير وأقوال العرافين وتمسكت بشرعية المشروع الصهيوني الذي يدعو للعودة إلى أرض الميعاد بعد غياب قسري مزعوم استمر آلاف السنين ، وبأن المشروع الصهيوني جاء ينقذ اليهود من اللاسامية ومن عمليات الاضطهاد والإبادة كما جرت في أوروبا وبشكل خاص على أيدي الوحش النازي. وقامت الرواية الإسرائيلية على تجاهل وإقصاء رسميين لجميع الآثار التي تشير إلى وجود فلسطين قبل عام 1948 ، وسطت على أسماء الجبال والتلال والسهول والمدن والقرى الكنعانية القديمة.
كما استخدمت إسرائيل في التأثير على الوعي العام الإسرائيلي تجاه النكبة صورا متعددة في علم الآثار والنبات والطعام والتربية والعمارة والسياحة التي تركز على هدف محوري هو تغييب التاريخ الفلسطيني في البلاد ، ومحو صور النكبة في وعي المواطن الإسرائيلي العادي. واعتادت ومعها الحركة الصهيونية على إنكار مجرد وقوعها والادعاء أن هدف الحديث عن النكبة هو نزع الشرعية عن إسرائيل وواصلت التنكر للمسؤولية عنها وأحالت مسؤولية الهجرة الجماعية للفلسطينيين على الدول العربية التي دعتهم إلى ذلك في انتظار إعلان النصر على المشروع الصهيوني في فلسطين. وواصلت إسرائيل ومعها الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية رفضها مجرد رؤية الفلسطينيين ضحايا لممارساتها وجرائمها ، وعملت بكل جهد على تجريد الفلسطينيين من القدرة على عرض أنفسهم ضحايا.
وفي أفضل الحالات عرضت إسرائيل مشكلة اللاجئين كمشكلة إنسانية يتحمل مسؤوليتها القادة الفلسطينيون وزعماء الدول العربية. وعملت جاهدة في الوقت نفسه على محو الذاكرة بواسطة الكتب التدريسية التي تتجاهل البعد الإنساني لتبعات حرب 1948 ، واستنفرت آلتها السياسية والأمنية والإعلامية لنزع الشرعية عن أدبيات المؤرخين الجدد التي ناقضت الرواية الصهيونية بشأن الحرب واللاجئين. وسنت قانون النكبة الذي يهدف إلى تمكين وزارة التربية والتعليم من فرض عقوبات على المؤسسات التربوية التي تُحيي ذكرى النكبة.
وفي المقابل قصرنا نحن الفلسطينيين في تقديم روايتنا الفلسطينية كما حدثت منذ وعد بلفور وصك الانتداب وما صاحبهما من إنكار للحقوق السياسية للشعب الفلسطيني ، بما في ذلك حقه في تقرير المصير. ففي وعد بلفور كما في صك الانتداب كان الحديث عن غير اليهود في فلسطين وعن حقوقهم المدنية والدينية وحسب. كان ذلك يجري قبل صعود الفاشية والنازية في القارة الأوروبية وقبل محرقة الوحش النازي بسنوات طويلة ، وقد جاء ذلك في سياق تقسيم وإعادة اقتسام العالم بين الدول الاستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى ، حيث ظهرت الحركة الصهيونية بصفتها إحدى أدوات الاستعمار ونتيجة طبيعية ومنطقية لتطور آليات سيطرته على بلدان المنطقة بعد نهاية الحرب.
جانب آخر لا يقل أهمية في عرض الرواية الفلسطينية هو السياسة التي سارت عليها الحركة الصهيونية ومؤسساتها في فلسطين في عهد الانتداب البريطاني وما صاحبها من تطهير عرقي صامت وتهجير للمواطنين من أراضيهم المستهدفة ببناء المستوطنات الأولى ، وسياسة العمل العبري وبناء المجتمع المغلق في فلسطين ، الذي كان يخطط لممارسة التطهير العرقي على نطاق واسع عندما تحين اللحظة المناسبة لذلك. كان بناء المنظمات العسكرية وشبه العسكرية بما فيها المنظمات الإرهابية اليهودية يتم على قدم وساق تحت سمع وبصر حكومة الانتداب البريطاني ، وعندما جاءت اللحظة المناسبة بانسحاب القوات البريطانية في فلسطين ، كانت البلاد مسرحا لعمليات قتالية لقوات يهودية مدربة ومسلحة وتتفوق في عديدها وعتادها على الجيوش العربية ، التي شاركت في حرب عام 1948.
وكانت خطة ” دالت ” للتطهير العرقي الشامل التي أقرتها قيادة الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية في آذار من عام 1948 جاهزة ، بعد أن أوكلت تنفيذها بتوجيهات تفصيلية إلى تلك القوات ، التي بنتها الحركة الصهيونية في فلسطين بمساعدة مباشرة من حكومة الانتداب البريطاني. كانت الخطة تقوم على التطهير العرقي كهدف مركزي من أهدافها ، بتوجيهات صارمة وتفصيلية ، تدعو دون رحمة إلى القتل ودب الرعب ومحاصرة المدن والقرى الفلسطينية وحرق البيوت والممتلكات وزرع الألغام وسط الأنقاض لمنع الأهالي من العودة إلى بيوتهم ، وترتب على تلك الخطة الإجرامية التي كشف عنها عدد من المؤرخين الجدد في إسرائيل أن ارتكبت ” الهاجانا ة” القوة العسكرية النظامية الرئيسة ونواة الجيش بعد قيام الدولة وغيرها من المنظمات الإرهابية 28 مجزرة ، كان أشدها هولا في دير ياسين ، ونفذت عمليات هدم لأكثر من 530 بلدة وقرية ، وهجرت نحو 800 ألف فلسطيني وحولتهم إلى لاجئين .
هذه الرواية قدمناها مجردة دون توضيح طبيعتها وسياقها السياسي ، ولم نقدم معها ما قاله مناحيم بيغن وإسحق شامير وغيرهما من قادة منظمات الإرهاب اليهودي عن دير ياسين مثلا ، وكلاهما أصبحا في ما بعد رؤساء لحكومات إسرائيلية. فقد قال مناحيم بيغن إنه دون دير ياسين ما كان ممكناً لاسرائيل أن تظهر للوجود ، أما إسحق شامير فقد وصف المجزرة بأنها كانت واجباً إنسانياً.
أبعد من ذلك ، ففي حين عبر السيد جاك رينيه مدير عمليات الصليب الأحمر في فلسطين آنذاك ، الذي زار القرية وعاين الجريمة المروعة ميدانيا وقدم بشأنها تقريرا تقشعر له الأبدان إلى الأمين العام للأمم المتحدة عبر فيه عن غضبه من الممارسات الهمجية للقوات اليهودية التي هاجمت الأطفال والنساء في القرية ، وجه مناحيم بيغن، رئيس الأرغون الإرهابية رسالة للقادة الذين نفذوا تلك الجريمة قال فيها : ” إن احتلال دير ياسين إنجاز رائع .. تقبلوا تهانينا على هذا النصر المدهش ، انقلوا إلى الجميع أفراداً وقادة أننا نصافحهم ونفتخر بروحهم القتالية الغازية التي صنعت التاريخ في أرض إسرائيل ، وإلى النصر كما في دير ياسين كذلك في غيرها ، سنقتحم ونبيد العدو ، ربنا لقد اخترتنا للفتح” .
مناحيم بيغن ، رئيس الأراغون الارهابية ، ورئيس وزراء اسرائيل ، الذي أطاح بحكم حزب العمل عام 1977 ، تحدث باسم الرب ، الذي اختاره لتلك المهمة الوحشية . ربما اعتقد أنه وريث يوشع بن نون ، الذي يروى عنه في أساطير العهد القديم وأسفاره ، أنه ( بعون الرب ) غزا مدينة أريحا في القرن الثالث عشر قبل الميلاد وأباد من فيها من رجال ونساء وأطفال باستثناء الزانية راحاب وأتبعها بمدينة ( عاي ) الكنعانية بجوار بيت لحم ، حيث لم يكتف بإبادة السكان من الرجال والنساء والأطفال بل الحق بهم جميع الحيوانات في المدينة ، رغم أن علماء التاريخ والآثار يجمعون على أن مثل ذلك الغزو لم يقع على الاطلاق وأن مدينة اريحا تعرضت لدمار قبل ظهور يوشع بن نون ( المزعوم ) على تخومها بقرن ونصف وأن ( عاي ) هي الأخرى تعرضت لدمار قبل ظهور بن نون بأربعة قرون .
روايتنا الفلسطينية تأخرنا في تقديمها كما جرت للعالم باعتبارها الفيصل بين الحقائق والأكاذيب والدليل القاطع على ما خططت له الصهيونية من جرائم تم ارتكابها ، الأمر الذي سمح لفترة غير قصيرة لرواج الرواية الإسرائيلية، التي ادعت أن سكان فلسطين غادروا منازلهم استجابة لنداءات من الخارج. وقد تأخر العالم في سماع روايتنا بقدر ما تأخرنا نحن في طرح رؤيتنا وروايتنا”.
الى جانب كل هذا ينبغي ألا تقف الرواية الفلسطينية حول النكبة على الذي حدث في العام 1948 ، بل يجب ان تتطور وتصاحب ما يجري على مر السنين ، لأن النكبة مستمرة منذ عامها الأول . من يستطيع تجاهل ما حدث في العام 1967 بعد ان احتلت اسرائيل الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة .
في أيام الاحتلال الأولى من ذلك العام قامت اسرائيل كذلك بأعمال تطهير عرقي فهدمت بصورة وحشية قرى منطقة اللطرون ( عمواس ، يالو وبيت نوبا ) في محيط مدينة القدس وشردت الأهالي في القرى المحيطة وحولت قراهم الى متنزه للترفيه ونقلت ملكية اراضيهم الى ما يسمى بالصندوق القومي اليهودي ( كيرن كييمت ) وحولتها الى مجال حيوي لنشاطاتها الاقتصادية ، وكما فعلت اسرائيل مع قرى اللطرون فعلت كذلك في القدس حين دمرت في اليوم التالي للاحتلال حي المغاربة ولم تكتف بتهجير سكانه من المكان بل هجرت في عملية تطهير عرقي كذلك نحو اربعة آلاف مواطن فلسطيني من حي حارة الشرف المجاورة . هذا يجب ان يكون فصلا من فصول من روايتنا عن النكبة ، حتى لا يتكرر المشهد ذاته في القدس ، حيث ما زال الاحتلال يهدِّد بتهجير أهالي الشيخ جراح ، و بطن الهوى في سلوان بالقدس المحتلة وأماكن أخرى بالمدينة المقدسة.
فصول هدم القرى والبلدات الفلسطينية والتهجير والتطهير العرقي لم تقف عند حدود ما جرى في العام 1948 و 1967 بل هي تواصلت بسيناريوهات وصور ووسائل وحشية من خلال السطو على اراضي الفلسطينيين وممتلكاتهم وتحويلها الى مجال حيوي لنشاطات استيطانية وضعت بحد ذاتها الأساس لبناء نظام قاس من التمييز والفصل العنصري ومن التطهير العرقي الصامت .
أحد النماذج القاسية لسياسة التطهير العرقي هي الأغوار الفلسطينية ، فقد كان عدد سكانها عام 1967 يتجاوز 125 الف نسمة ، أما اليوم فبالكاد يصل العدد الى 60 ألفا بفعل سياسة الطرد المنهجي للسكان من المنطقة وإحلال مستوطنين يهود محلهم ، ما يشكل جريمة حرب واضحة لا تخطئها عين ، الى جانب حقائق أخرى تقدم اساسا قانونيا مناسبا لعمل المحكمة الجنائية الدولية وعمل محكمة العدل الدولية بشأن ما يترتب على الاحتلال الدائم من تغيير للوضع الديمغرافي للسكان في الضفة الغربية المحتلة بما فيها القدس وسياسة التطهير العرقي الاسرائيلية .
الآن ونحن ندخل عاما جديدا من أعوام النكبة الفلسطينية نلاحظ التحول في موقف الرأي العام العالمي . فالوضع بدأ يتغير ، ومن المؤشرات على ذلك القرار الأممي الأخير مطلع كانون اول عام 2022 بتحديد الخامس عشر من أيار القادم يوما تحيي فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة على مستوى رفيع مرور 75 عاما على نكبة فلسطين .
هذا التحول كان نتيجة طبيعية لصمود أهلنا في مناطق الـ 48 في وجه العدوان ومحاولة الأسرلة الدائمة وثباتهم في أرضهم كأقلية قومية حافظت على قضيتها وعلى وجودها في ارضها ، وثانيا بفعل الاشتباك المتواصل بين أبناء الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة بعدوان حزيران 1967 وما يصاحبه من جرائم حرب اسرائيلية وسياسة تمييز وفصل عنصري تغذيها سياسة الاحتلال والاستيطان الاسرائيلية وبفعل استعادة مخيمات اللجوء والشتات في دول الجوار لدورها كرافعة كفاحية من أجل استرداد الحقوق تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية ما ساعد في الحفاظ على قضية اللاجئين حية وعلى حقهم في العودة ، هذا الحق الذي لا يموت بالتقادم كما كانت تحلم إسرائيل وكما هي أوهام الإدارة الأميركية.
وتبقى هنا مهمة الحفاظ على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين وتمكينها من القيام بدورها وتقديم خدماتها في مختلف المجالات الصحية والتربوية والاجتماعية والإنسانية وكشاهد على حق وطني وفردي وجماعي يجب التمسك به كموقف وطني ثابت في مواجهة محاولات تصفية أعدل قضية في تاريخ البشرية.