رد شرف الراقصة ، بقلم : منى نوال حلمى
ايمانى بالرقص ، هو ايمانى بالحرية نفسها . على قناعة تامة ، أن الانسان الذى يرقص امرأة أو رجلا ، من الصعب اخضاعه . شعب يرقص ، شعب لا يُستعبد .
حين نرقص ، نتحول الى عصافير ، من المستحيل أسرها فى أٌقفاص ولو كانت من ذهب .
بالرقص ، يكتمل الانسان ، حيث العقل ، والعاطفة ، والجسد ، فى التحام وتناغم ، وحيث يمتزج الماضى ، مع الحاضر ، مع الحلم ، فى لوحة تعبيرية مبدعة ، تمتع وتأسر العقول والقلوب .
قبل اللغة والكلام والكتابة وازراعة ، رقص الانسان معبرا عن كل مشاعره واحتياجاته .
تقول الراقصة الروسية الشهيرة ، أنا بافلوفا 12 فبراير 1881- 23 يناير 1931 ، ” الراقصة ترقص لأن الدم يرقص فى عروقها “. وهذا التعبير بشكل آخر ، كما أفهمه ، أن الرقص يحول الجسد كله الى ” فن “.
أما ايزادورا دنكن 26 مايو 1877 – 14 سبتمبر 1927 ، التى تربعت على عرش الرقص فى أميركا ، تقول : ” جاءتنى فكرة الرقص والحركة الأولى ، بالتأكيد من ايقع الأمواج ، حيث وُلدت على شاطئ البحر .. وأنا أرقص لأن هناك ما لا أستطيع قوله “.
أتذكر أول قصة حب فى حياتى ، بدأت بالرقص ثلاث ساعات متتالية بدون توقف . وأعجز تماما عن مصادقة انسان لا يجيد السباحة والرقص . من تجربتى الشخصية مع السباحة التى أمارسها يوميا على مدار العام ، منذ ثلاثين عاما ، أن السباحة هى رقص على الماء وفى الماء ومع الماء . لا أثق بانسان امرأة أو رجلا ، لا يستطيع الرقص .
واختصر الشاعر والممثل والمسرحى الفرنسى موليير 15 يناير 1622 – 17 فبراير 1673 ، القصية فى كلماته : ” ألسنا نصف الانسان الذى فشل بأنه قد اتخذ الخطوة الخاطئة ؟ . وهل الخطوة الخاطئة شئ آخر غير عدم اجادة الرقص ؟ ؟.
أعتقد أن أصعب الأزمات ، ومختلف المشاكل ، يمكن تجاوزها بالرقص .
وبالتأكيد فان الطلاق ” يقع ” ، والزواج ” يتعثر ” ، لأن الزوجة والزوج ، يعجزان عن الرقص معا فى تناغم . ” يقع ” ، و ” يتعثر ” ، كلاهما من أبجدية الرقص .
والعلاقة الحميمة بين المرأة والرجل ، ما هى الا ” رقصة ” أو رقصات متوالية من الشغف والدهشة والعاطفة ، فيها كشف للذات واستعادتها والاكتمال بها .
وهاهو كعادته فى التهكم الذى يدل على فلسفة عميقة ، يقول الممثل الكوميدى فنان الضحك وسرعة البديهة الأميركى ، جروتشو ماركس 2 أكتوبر 1890 – 19 أغسطس 1977 : ” ان الزوجات اناس يشعرون أنهم لا يرقصون بالقدر الكافى “.
وأعتقد أن كثيرين مثلى ، لا يتذكرون شيئا من فيلم زوربا اليونانى ، الا رقصة زوربا للممثل المكسيكى الأميركى ، لأنتونى كوين 21 أبريل 1915 – 3 يونيو 2001، على موسيقى ميكيس ثيودوراكس 29 يوليو 1925 – 2 سبتمبر 2021 .
لكن فى بلادنا ، لا نحترم الرقص ، ونزدرى الراقصات بشكل خاص .
واحد اعلامى شاهدته ، وسمعته فى قناة فضائية ، يقول بالحرف الواحد : ” بصراحة أى واحدة بتشتغل رقاصة هى فى ُعرف العاهرة ، لأنها تعرض جسمها العارى ، وتتحرك حركات اباحية تثير شهوات الرجال “.
ما شهوات الرجال ، هذه التى ورانا ورانا فى كل مكان ، تعطل تقدمنا الحضارى والأخلاقى ، يثيرها مجرد وجود المرأة ، حتى لو متغطية كلها ؟؟.
لا يعرف الرجال كيف يضبطون ويحكمون ويربون شهواتهم ، ومع ذلك يستعلون على النساء ، يسرقون حقوقهن، ويغتصبون كرامتهن ، ويذبحون انسانيتهن علنا ، فى وضح النهار ، بدم بارد . كيف نقبل هذه الأوضاع ؟؟.
أغلب الناس ، نساء ورجالا . مثل هذا الاعلامى ، لا يجدون مانعا للاستمتاع بعرض الراقصة ، ورشاقة جسدها . لكنها أخلاقيا ، مُدانة .
وعرفنا رجالا تزوجن من راقصات ، على شرط أن تترك الواحدة منهن الرقص ، لأنه ماض غير مشرف .
موقف يفضح تناقضاتنا الأخلاقية ، والثقافية ، والحضارية ، التى تثير الاشمئزاز ، وتوضح لماذا نحن فى بلادنا ، نعانى من الأخلاق المنحدرة ، والفضيلة الهشة ، والنفوس الغارقة فى الفصام ، والكذب ، والسِرية ، والموروثات العفنة .
لا نرى فى جسد الراقصة الا لعبة مدنسة ، تثير شهوات الرجال ، وتحرض على الانحلال الأخلاقى . مع أن الشهوات والانحلال ، فى ” عين ” المتفرج ، وليس فى جسد الراقصة ، التى تزاول واحدة من المهمات الفنية الابداعية ، الأخرى ، مثل الِغناء ، أو التمثيل ، أو كتابة الشِعر ، أو العزف على احدى الآلات الموسيقية ، أو النحت ، أو التصوير ، أو الاخراج السينمائى .
سمعت واحدا من كبار المشايخ والدعاة وأشهرهم ، يقول أن الرقص حرام لأنه يخرب البيوت . فالرجل تتفجر شهوته ، وهو يتفرج على الراقصة الفاتنة التى تتلوى بحركات الجسد ، فيذهب الى البيت متعشما أن تفعل زوجته مثل الراقصة ، وطبعا مراته متعرفش ، فتبدأ المشاحنات والمشاجرات والنفور ، وبعده ينخرب البيت .
أقول لهذا الشيخ وغيره ، ألم تسمع بالمثل الصوفى الذى يقول : يحترمك الله عندما تعمل ، لكنه يحبك عندما ترقص “.
اذن ، الحل ، هو اعادة تأديب ، وتهذيب ، وتربية ، شهوات وغرائز الرجال ، الذين ” يبحلقون ” ، فى جسد المرأة الراقصة ، بحلقة ” شهوانية ” ، غير فنية ، لا تعيب الراقصة ، بل تعيبهم هم .
هناك رجال ، يستمتعون بالرقص الشرقى ، استمتاعا ، فنيا ، راقيا ، لوجه الفن ، مثلما يستمتعون ، بندوة فكرية ، أو أمسية شعرية ، أو متحف يعرض اللوحات الفنية ، أو مسرحية أو فيلم . ولا يجئ فى خيالهم ، أية شهوات جنسية ، مكبوتة أو غير مكبوتة . مثل هؤلاء الرجال ينطبق عليهم قول جورج برنارد شو 26 يوليو 1856 – 2 نوفمبر 1950 : ” الفضيلة ليست فقط ألا ترتكب الرذائل ولكن ألا تشتهيها أيضا “.
هذا الانحراف والتناقض ، صنعته الثقافة الذكورية ، المتحفزة دائما لادانة المرأة ” الضحية ” . وليس ادانة الرجل ” الجانى ” . خاصة لو كان جسد المرأة ” متورطا ” .
بالصدفة وعلى الانترنت ، وجدت رجلا عربيا يقول ، أن أروع الحكم التى قرأها هى أن ” الرقص نقص “.
فى كل المهن ، يوجد الفاسد . مثلا ، وجود صحفيات فاسدات ، لا يجعلنا نحتقر كل الصحفيات أو مهنة الصحافة . والطبيبات الفاسدات ، لا يقودنا الى ازدراء كل الطبيبات أو مهنة الطب .
واذا حكمنا بالعقل والعدل ، نجد أن فساد راقصة ، أهون بكثير من فساد صحفية تبيع قلمها ، وتضلل الحقيقة ، وأقل ضررا من فساد طبيبة قد تودى بحياة اانسان أو تصيبه بعاهة مستديمة أو تنهب فلوسه بتعاطى أدوية واجراء جراحات لا يحتاجها .
أوليست السياسة ، كما يصفها علنا الجميع حتى المشتغلين بها ، ” لعبة قذرة ” ، لآنها مهنة المصالح وليس المبادئ ؟؟.
فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى ، الذى من المفترض أن تكون له نظرة مختلفة ، عن الرقص الشرقى ، أحد الفنون التى أثرت السينما المصرية منذ بداياتها ، نجده يتجاهل فن الرقص الشرقى .
لماذا لا تُخصص جائزة مصرية سنوية فى المهرجانات ، والاحتفالات الفنية باسم الراقصات الرائدات ” شفيقة القبطية ” ، ” بديعة مصابنى ” ، ” تحية كاريوكا ” ، ” سامية جمال ” ، ” نعيمة عاكف ” ، ” فريدة فهمى ” ، ” هاجر حمدى ” ، ” ببا عز الدين ” ، نبوية مصطفى ” ، وغيرهن ؟؟.
هؤلاء صنعن بصمتهن الخاصة ، فى الرقص الشرقى . وكن من أهم عوامل نجاح ، وجاذبية ، الأفلام الغنائية الاستعراضية ، المصرية ، فى الثلاثينات والأربعينيات ، والخمسينات ، من القرن الماضى .
مثلا شفيقة القبطية ، وضعت أساس الرقص الشرقى . وبديعة مصابنى ،
وهبت ما تملك من مال ، لانشاء كازينو ” بديعة مصابنى ” التاريخى الشهير المرموق ، لاكتشاف المواهب الفنية وتشغيلها حتى النجومية .
و” تحية كاريوكا ” ، الى جانب رقصاتها التى أسرت العقول والقلوب ، كان لها مواقف وطنية لم يقم بها أى أحد ، ممنْ يشتمون الراقصات . كما أنشأت فرقة مسرحية باسمها ، قدمت مسرحيات من أجرأ المسرح السياسى المصرى والعربى .
راقصة مثل ” سامية جمال ” ، كانت صورتها الفاتنة السمراء ، ترسم على علب الشوكولاتة ، وأخذت لقب راقصة مصر الرسمية ، فى عهد الملك فاروق .
أما ” فريدة فهمى ” فعرفناها نجمة مع فرقة رضا ، التى لفت العالم باستعراضات صفق لها الجمهور ، منبهرا بالابداع المصرى .
وهناك راقصات مصريات ، تبنين مشروعات خاصة بهن ، لتدريب الفتيات على الرقص الشرقى المصرى ، وحمايته من الانقراض ، أمام الراقصات الوافدات من آسيا ، اللائى يرقصن الرقص الشرقى بطريقتهن الخاصة المختلفة عن الطريقة المصرية .
وفى أماكن مختلفة من العالم ، هناك مدارس ، ومراكز متخصصة ، لتدريس الرقص الشرقى المصرى ، الذى يعامل بازدراء فى وطنه .
واليوم العالمى للرقص ، فات منذ أيام فى 29 أبريل ، ولم نحتفى به فى بلادنا ، تم تأسيسه اعترافا بأهمية الرقص ، ورسالته الفنية النبيلة . تم اختيار هذا التاريخ ، لأنه يوافق ميلاد أشهر راقص ومصمم رقص فرنسى وأستاذ باليه عالمى ، جان جورج نوفير” 29 أبريل 1727 – 15 أكتوبر 1810 .
لقد بدأ احتفالا برقص الباليه ، ثم أخذ يحتفى بالرقصات الكثيرة المتنوعة ، من مختلف العالم ، والتى تميزالشعوب المختلفة ، على كوكب الأرض .
أتذكر قول الشاعر الأميركى ، ادوين دينبى 4 فبراير 1903 – 12 يوليو 1983 ” هناك القليل من الجنون فى الرقص ، الذى يجعل الجميع على ما يُرام “.
ان كل شئ فى الكون يرقص على ايقاعات مختلفة . وأعتقد ومن تجربتى الشخصية أيضا ، أن الاضطرابات العضوية والنفسية ، تنشأ عندما لا يكون هناك انسجام بين جسدنا وجسد الكون .
فى بلادنا ، لم نتأسس على احترام وحب اأجسادنا ورعايتها والاستماع اليها . نشأنا على الخوف من أجسادنا ، واعتبار الجسد خطيئة ، وعار ، وسجن لا نتحرر منه الا بالموت .
وأنا أصدق الفيلسوف نيتشه 15 أكتوبر 1844 – 25 أغسطس 1900 ،
حين قال : ” استمع الى جسدك “. وقال أيضا : ” علينا أن نفكر فى الأيام التى لم نرقص فيها على الأقل ولو مرة واحدة “.
فى مصر و العالم ، اصبح علاج الأمراض النفسية بالرقص والموسيقى ،
يعطى نتائج ايجابية مبهرة .
” لغة الجسد ” تساعد محققى الجرائم فى كشف الجانى ، وهل يضلل جهاز كشف الكذب ، من خلال متابعة وتأمل لغة جسده .
كل شئ يكذب الا الجسد . وهذه حقيقة واحدة كافية ، لأن ننحنى تبجيلا
للجسد ، فى عالم مصنوع من أنسجة الكذب .