اليسار الصهيوني: انهيار لا سابق له ، بقلم : ماهر الشريف
بينما حصلت أحزاب اليمين القومي والديني المتطرف على 64 مقعداً في الكنيست، إثر الانتخابات التشريعية التي جرت في مطلع شهر تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، وتمّ تكليف زعيمه بنيامين نتنياهو رسمياً بتشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، لم يحصل اليسار الصهيوني سوى على أربعة مقاعد في الكنيست فاز بها حزب العمل، بينما اختفى حزب ميرتس عن المشهد البرلماني ولعله قد يختفي عن المشهد السياسي. ويزكي انهيار اليسار الصهيوني هذا التحوّل الذي يشهده المجتمع الإسرائيلي منذ بدايات الألفية الثالثة والذي يدفع به أكثر فأكثر نحو مواقع اليمين القومي والديني المتطرف.
العوامل الثانوية لهذا الانهيار
لعب اليسار الصهيوني دوراً مركزياً في الحياة السياسة الإسرائيلية، إذ كان في قلب مشروع تأسيس الدولة سنة 1948، وظل يمتلك أغلبية في البرلمان لنحو ثلاثة عقود. ومع أنه فقد هذه الأغلبية منذ الانتخابات للكنيست في أيار/مايو 1977، إلا إنه عاد وانتعش في مطلع تسعينيات القرن العشرين، وحصل حزباه الرئيسيان، العمل وميرتس، في الانتخابات التشريعية التي جرت في حزيران/يونيو 1992، على56 مقعداً، إلى أن بدأت مسيرة تراجعه المتواصل بعد اغتيال يتسحاق رابين في تشرين الثاني/نوفمبر 1995، وصار، في مواجهة صعود التيارات القومية والدينية، ينسج تحالفات انتخابية يحكمها عامل رئيسي هو ضمان تمثيله البرلماني أو مشاركته في الحكومة.
ما أن ظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة، حتى راح ممثلو حزبي اليسار الصهيوني يلقون بمسؤولية الفشل على عاتق بعضهم البعض وعلى عاتق حلفائهم. فرئيسة حزب ميرتس المخضرمة، زهافا غالؤون، التي وصفت انهيار حزبها بأنه “مأساة” لإسرائيل، وجهت رسالة بالفيديو إلى أعضائه ومؤيديه اعتبرت فيها أن نتائج الانتخابات “تمثل كارثة بالنسبة لميرتس وكارثة للبلاد وكارثة شخصية”، وألقت مسؤولية هذا الفشل التاريخي على عاتق يائير لبيد، زعيم حزب “يوجد مستقبل”، وميراف ميخائيلي، زعيمة حزب العمل، وقالت: “لقد ضغطتُ من أجل الاندماج [في قائمة واحدة] مع حزب العمل وحذرت لبيد ومعسكره من أنهم يلعبون بالنار، بحيث إننا إذا لم نتخذ الاحتياطات، فلن يدفع الثمن ميرتس فقط”، وأضافت: “للأسف، انشدّ ناخبونا إلى حملة الحزب الأكبر وفضلوا دعم يائير لبيد ضد بيبي “نتنياهو”.
أما وزير التعاون الإقليمي في حكومة لبيد-بينت من حزب ميرتس، عيساوي فريج، فقد أرجع انهيار اليسار الصهيوني إلى رئيسة حزب العمل، وصرّح بأن “أوهام ميراف ميخائيلي كانت وراء انهيار يسار الوسط”، نظراً لكونها رفضت بشدة أي احتمال للاتحاد ضمن قائمة واحدة بين حزبها وميرتس، مكررة أن الحزبين “سيكونان قادرين على تجاوز العتبة الانتخابية من خلال تقديم نفسيهما بصورة منفصلة”. وأضاف فريج في حديث لإذاعة الجيش غداة الانتخابات قائلاً: “إن ميخائيلي لديها أوهام العظمة، وهي تحلم بأن تكون يتسحاق رابين، ولعبت الأنا دوراً، ودائماً ما ندفع الثمن مقابل الأنا”. وقد أقرّ مرشح حزب العمل للانتخابات يايا فينك، الذي لم يحالفه الحظ بالفوز، بأن “قرار عدم توحيد ميرتس والعمل كان عاملاً رئيسياً في نجاح الكتلة اليمينية والدينية”، وتابع قائلاً: “يبدو أن هذا كان خطأ”، ذلك إن “زعيمة الحزب اتخذت قراراً ووقفنا جميعاً إلى جانبها”.
ويتفق عدد من المحللين على أن زعيمة حزب العمل تتحمّل مسؤولية كبيرة عن انهيار اليسار الصهيوني، إذ قدّر باسكال مانكر أن ميراف ميخائيلي، الصحافية السابقة ونصيرة الحركة النسوية، التي تسلمت زمام قيادة حزب العمل قبل ثلاثة أعوام على أمل توليد زخم جديد في صفوفه وبين ناخبيه، لم تفلح هذه المرة في لعب “الورقة النسوية”، ولم تقنع استراتيجيتها جمهور الناخبين.
أما المحلل الإسرائيلي أوري مسغاف، فقد اعتبر في مقال حمل عنواناً معبّراً هو “وداعاً ميرتس”، نشرته صحيفة “هآرتس” في الرابع من الشهر الجاري، أن “كل توسلات ميرتس إلى حزب العمل بالاتحاد معه، وإلى لبيد كي لا يبتلعه، وإلى الناخبين كي يرحموه، لم تنفع؛ فقد شُطب الحزب من الخريطة، ومعه اليسار الصهيوني، وهذا أمر له رمزيته الكبيرة، ويبدو كأمر مطلوب”، ذلك إنه “في انتخابات شهدت صعوداً غير مسبوق للكهانيين والحريديم، لم يعد من المنطقي في كنيست يحكمه بن غفير وسموتريتش أن يبقى مكان لزهافا غالؤون ويائير غولان”، مقدّراً أنه لو كان “بضعة آلاف من الناخبين من أحزاب التكتل اقترعوا لميرتس، لكانوا أطالوا حياة الحزب، موقتاً وبصورة مصطنعة”.
العوامل الجوهرية للانهيار
تؤكد نتائج الانتخابات التشريعية الإسرائيلية، التي جرت خلال السنوات الماضية، بروز اتجاه سياسي ثابت: اليسار الصهيوني يتراجع لصالح يمين قومي وديني أكثر صلابة، ينظر إلى إسرائيل بصفتها دولة قومية وأرثوذكسية متشددة ومحافظة وليبرالية جديدة. وتخلق هذه الظاهرة صعوبات أمام حزبي اليسار الصهيوني فيما يتعلق بتعريف هويتهما الإيديولوجية، وتجعلهما يميلان “إلى تبني مواقف يمينية تحظى بإجماع بين السكان من أجل الحصول على المزيد من الأصوات، وإلى محاولة إغواء ناخبي اليمين وعدم انتقاد السياسات والممارسات التي ينتهجها زعماء هذا اليمين في الحكم، وهو تكتيك “سبّب، بلا شك، ضرراً لهذا اليسار الصهيوني الذي ابتعد عن مواقفه الحزبية التقليدية لأغراض انتخابية”.
ومن ناحية أخرى، فإن من العوامل التي جعلت اليسار الصهيوني يتماهى مع اليمين القومي، في حدود معينة، هو تبنيه المبدأ القائل إن إسرائيل هي دولة ديمقراطية واعتقاده بأنه يمكن فصل الدولة داخل حدودها قبل سنة 1967 عن بقية الأراضي التي خضعت لاحتلاها، وذلك عبر إقامة “حاجز نفسي بين نظامين: إسرائيل ديمقراطية (جيدة) واحتلال مؤقت (سيئ)”. فالصهاينة اليساريون “يريدون ضمان أن تظل إسرائيل دولة ذات أغلبية يهودية يمكنها الاستمرار في منح مواطنيها اليهود الأراضي وحقوق الهجرة”، والادعاء بأن الضم الرسمي للضفة الغربية المحتلة “هو وحده الذي يمكن أن يحوّل إسرائيل إلى دولة فصل عنصري”، وكذلك الادعاء بأن إسرائيل أنهت احتلالها لقطاع غزة في سنة 2005، على الرغم من أنها “لا تزال تسيطر على الصادرات والواردات والبحر والمجال الجوي، وكذلك على تسجيل السكان، وتعطي رقم هوية لجميع الفلسطينيين في القطاع، والتي بدونها لا يمكنهم المغادرة أو عبور الحدود معها ومع مصر”.
وأرجع بعض المحللين تراجع اليسار الصهيوني إلى تخليه عن الفئات الاجتماعية الشعبية ومطالبها؛ فبحسب المؤرخ ستيف جوردان، الذي نشر كتاباً عن اليسار الصهيوني، تخلى هذا اليسار منذ زمن عن الصراع الطبقي وعن طابعه العمالي، معتبراً أن هذا التخلي سار في اتجاهين: فمن جهة “تخلى جمهور الناخبين عن حزب العمل”، ومن جهة ثانية، “صار حزب العمل يجمع أشخاصاً مختلفين تماماً، بحيث صار المحامي يجد نفسه جنباً إلى جنب مع ميكانيكي”، وتحوّل الحزب “ليصبح حركة من الطبقة الوسطى العليا”، بينما مالت الطبقات الشعبية نحو اليمين و”لم تعد تجد التعبير عن مصالحها في حزب العمال، الذي أصبح قادته يمثلون النخبة في البلاد”. وخلُص المؤرخ نفسه إلى أن “بنيامين نتنياهو جعل الناس ينسون القضايا الاقتصادية والاجتماعية ويركزّون حديثهم على الطاقة النووية والأمن”.
ويتفق الباحث والأستاذ الجامعي فيليب فيليللا مع هذا التحليل، إذ هو يرى أن أحد عوامل “موت” اليسار الصهيوني هو الطلاق بينه وبين الطبقات العاملة، ذلك إن حزب العمل الإسرائيلي أقيم “على أسس اجتماعية متينة، مع وجود مزارعين منظمين في الكيبوتسات (القرى الجماعية) والموشافيم (القرى التعاونية)، وطبقة عاملة تتمتع بمركز نقابي قوي: الهستدروت، ولكن تدريجياً اضطر الكيبوتس إلى إجراء تعديلات أفرغته من جوهره، بينما حُرم الهستدروت، الذي كان أكثر من مجرد نقابة – يسيطر على الرعاية الاجتماعية وخدمة التوظيف والقطاعات العامة والتعاونية (ثلث الاقتصاد الإسرائيلي) – ويضم 85٪ من الموظفين، حرم من قوته بعد إجراء إصلاح التأمين الاجتماعي وزيادة انعدام الأمن الوظيفي، وهو اليوم يجمع فقط ربع الموظفين وبصورة أساسية في القطاع المحمي (الخدمات العامة والشركات الكبيرة الخاصة)”. ويتابع الباحث نفسه أن الأقلية اليسارية الصغيرة، التي “اختُزلت إلى برجوازية حضرية وعلمانية، مرتبطة بأسلوب حياة “غربي” بعيداً عن التقاليد والممارسات الدينية”، فقدت مصداقيتها لدى قطاعات واسعة من الجمهور، فسعت إلى حشد الشباب حول قضايا جديدة، مثل قضايا البيئة والمناخ ونوعية الحياة، لكنها لم تنجح في ذلك كما يبدو، فعادت لتلتف حول شعار واحد ساد في بعض الاحتجاجات والمظاهرات الأخيرة، التي جمعت جماهير متنوعة للغاية وذات توجهات أيديولوجية متعارضة في بعض الأحيان، وهو شعار “بيبي، اذهب إلى المنزل!”.
بيد أن العامل الجوهري الأكثر أهمية في انهيار اليسار الصهيوني هو ذاك الذي توقف عنده الصحافي المناهض للاحتلال جدعون ليفي في مقال نشره في موقع صحيفة “هآرتس” في الثالث من الشهر الجاري بعنوان “بعد أكثر من 50 عاماً من دعم الاحتلال، ماذا تخيّل اليسار الإسرائيلي سيحدث؟”، رأى فيه أن اليسار الصهيوني “الذي دخل في غيبوبة بعد اتفاقية أوسلو”، لم يكن لديه ما يقدمه في الانتخابات الأخيرة، وأن خمسين عاماً “من الدعم شبه الكامل للاحتلال، من اليسار واليمين الصهيونيين، لا يمكن أن تنتهي إلا بكون بن غفير بطلاً شعبياً”، وأنه “كان من المستحيل ببساطة متابعة الأوهام – الاحتلال اليهودي والديمقراطي والمستنير والاحتلال المؤقت – وكل تلك الذخيرة من العبارات البالية”. وأكد ليفي أنه “لا جدوى من الاستمرار الآن في حملة التنديد”، والقول: “يائير لبيد سحق أصوات حزب العمل، ولم يندمج العمل مع ميرتس”، ذلك لأنه “لن يكون هناك اختلاف في الصورة العامة: المجتمع الذي تشكّل في هذا البلد هو مجتمع ديني جزئياً وعنصري جزئياً، وكراهية العرب هي وقوده الرئيسي، ولم يكن هناك من يعارضها”، وأن ما حدث في الانتخابات بدأ قبل سنوات، عندما “حاول اليسار والوسط المنجرفان اللذان يفتقران إلى القيادة والشجاعة أن ينحنيا لليمين ويبدوان مثله”. فطوال سنوات “تحدث الإسرائيليون عن “الشعب المختار”، وعن المحرقة التي بات بعدها كل شيء مسموحاً به، وعن العرب الذين يريدون إلقاءنا في البحر، وعن حقنا في الأرض بسبب القصص التوراتية، وعن دفاع الجيش عن إسرائيل بصفته الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، وعن داوود ضد جوليات، وعن عرب إسرائيل بصفتهم طابوراً خامساً، وعن العالم كله ضدنا، وعن حقيقة أن أي شخص ينتقدنا هو معاد للسامية؛ فماذا كنا نظن أنه سيخرج من كل هذا؟ هذا ما يحدث عندما لم تقابل صرخات “الموت للعرب” التي ستتردد الآن في المدارس خلال الجلسة الصباحية، بصرخة واحدة “الحرية للعرب.
وختاماً، فقد افترضت عندما شرعت في كتابة هذا المقال أن هناك يساراً وصهيونياً في إسرائيل، فهل هذا الافتراض صحيح؟
إن عدداً من الباحثين، ومنهم الباحث الفرنسي توماس فيسكوفي الذي نشر كتاباً عن فشل اليسار في إسرائيل، يعتبر أن على اليسار الإسرائيلي أن يختار ما بين اليسار والصهيونية، ذلك لأنه لا يمكن الجمع بينهما، معتبراً أن المفردات الاشتراكية التي يستخدمها اليسار الصهيوني ليست أكثر من مجرد “فولكور”، وأن الرغبة في التعبير عن الصهيونية، التي هي قبل كل شيء مشروعاً قومياً يدافع في المقام الأول عن شعب واحد متفوق على الآخرين، “يقود حتماً إلى معضلة”. ويرجع الباحث نفسه إلى التاريخ، فيشير إلى إنه في وقت مبكر من عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وحتى قبل إنشاء إسرائيل، كانت هناك نقاشات بين النشطاء في النقابات، وفي التنظيمات السياسية، متمحورة حول سؤال: “هل علينا أن نكون أكثر يساراً وننشئ تنظيماً على أسس اجتماعية وطبقية، متجاوزاً الخصوصيات، أم علينا أن نكون صهاينة أكثر وتكون الأولوية لبناء الدولة؟ لتنهي هذه النقاشات إلى أن تتبع الأغلبية المعسكر الذي سيصبح حزب العمل، والتي اعتبرت أن الأولوية هي الدفاع عن دولة لليهود قبل كل شيء على حساب القيم اليسارية”. واستغرب فيسكوفي أخيراً كيف يمكن لليسار الصهيوني أن يتحدث عن دولة يهودية وديمقراطية بعد إقرار قانون القومية في سنة 2018 “الذي تنص مادته الأولى على أنه في إسرائيل، لليهود فقط الحق في تقرير المصير، في تعبير على الأقل عن فصل عنصري”، علماً بأن “الدولة اليهودية الديمقراطية الشهيرة، لم يعرفها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة مثلهم مثل فلسطينيي إسرائيل: فكيف يعرف فلسطيني من نابلس أو من غزة ما هي الدولة اليهودية الديمقراطية والليبرالية؟ بالنسبة له هذا هراء، لأنه لم يرَ سوى الجنود الذين يضطهدون عائلته”.