اعتقد أن الكتابة اخترعها الإنسان لمد جسور التواصل مع الآخرين، فالإنسان اجتماعي وفق النظريات الاجتماعية وإنه لا غنى له عن الجماعة، لكنه أولاً مهّد لها باللغة التي انبثقت من الحاجة ثم جاءت الكتابة نتاجاً لتطور المفهوم اللغوي، وكانت هي الوسيلة المثلى لحفظ الانتاج البشري على مختلف توجهاته سواء في النواحي العلمية والاكتشافات أو الثقافة، ويرجع المؤرخون بداية الكتابة إلى خمسة آلاف سنة قبل الميلاد في بلاد الرافدين، وأنها جاءت استجابة للإبداع الانساني في مجال الزراعة، ثم كانت نتيجة للتجمعات البشرية في مواقع وأماكن سميت في ما بعد بالمدن .
وهناك مَنْ يربط الكتابة وتطورها بازدهار التجارة، وظهور العجلات التي استخدمت في عربات بدائية سرعان ما أخذت تتطور أشكالها وفق حاجة الناس في ذلك الزمن الغابر .
شكل الكتابة يرجعها العلماء إلى نحو 3600 قبل الميلاد، وذلك وفق ما وقع بين يدي علماء الاحاثة والآثار من حفريات عبارة عن الواح طينية عليها نقوش، يقول العلماء انها تمت وهي طرية بقلم مسنن (حاد) ثم تم تجفيف الطين بواسطة النار أو الشمس .
هل تتوقعون أن هذه المسيرة الإنسانية الغابرة كانت تحدث والمرأة في معزل تام أو في انفصال عنها وعن جوانب تطور تلك المجتمعات؟
تثبت كثير من الحضارات من خلال الكشوف والآثار، ومن خلال النقوش التي تمكن العلماء من فك رموزها وتحليل طلاسمها أن المرأة كان لها دور ريادي، وفي أحيان كثيرة رئيس في هذه الرحلة الإنسانية نحو تعلم الإنسان اللغة ومن ثم الكتابة .
في كتابها “تاريخ النساء الفلاسفة في العصرين اليوناني والروماني” تتحدث مؤلفته، ماري إيلين وبث، عن عدد من الشخصيات النسائية اللاتي تميزت كتاباتهن بالعمق والبعد الإنساني والفلسفي لدرجة تأثر كبار الفلاسفة بهن، حيث تقول: “إن المصادر القديمة تشير إلى أن النساء كن نشيطات، وأنهن لعبن دوراً جوهرياً في تطور الفلسفة المبكرة إذ يخبرنا ديوجين لايرتوس بأن ارسطو كان دوماً يؤكد أن فيثاغورث قد استقى جزءاً كبيراً من آرائه الاخلاقية من السيدة ثيميستوكليا” .
أعطت أيضاً ماري إيلين في كتابها نموذجاً آخر عن سيدة عاشت في تلك الحقبة التي يؤرخ لها بقبل الميلاد، فقدمت السيدة “لثيانو الكر وتونية” التي كانت تلميذة لفيثاغورث، والتي عرف عنها تميزها بالعمق الفلسفي النسائي، ومن أقوالها المعروفة: “الحب الرومانسي ليس أكثر من الميل الطبيعي إلى نفس طاهرة” .
دوما هناك تساؤل لماذا تعرضت المرأة لمحاولة الإقصاء والإبعاد عن جملة من مجالات الحياة الإنسانية، ومنها الكتابة؟ السيدة ديل سبيندر، في كتابها الذي حمل عنوان: “لغة من صنع الرجال” قالت: “ بينما ورثنا المعاني المتراكمة للتجربة الذكورية، فإن معاني وتجارب جداتنا غالباً ما اختفت من على وجه الأرض” . ومن المؤسف أن كلماتها تحمل الكثير من القبول، وكما يقال فإن التاريخ يكتبه الأقوياء، ويظهر أن الرجل كان هو المتمتع بالقوة في معظم فترات التاريخ الإنساني .
لم تكن المرأة تعاني هذا التجني والتجاوز منذ ذلك الزمن السحيق، ففي التاريخ الحديث اذا صح التعبير ظهر نوع آخر من التجني على الأدب النسائي بعدم الاعتراف بأهليته ووصمة باتهامات في أحيان كثيرة لا تصنف أكثر من كونها متواضعة في جانبها النقدي، وخير دليل في هذا السياق ما حدث مع الكاتبة والمؤلفة الإنجليزية الشهيرة ماري آن إيفانس، والتي اختارت اسماً مستعارا ذكوريا لأنها كانت تريد أن تأخذ أعمالها على محمل الجد، ولا تتهم بأنها كاتبة رومانسية فقط بسبب أنها امرأة، فلا تجد القبول والانتشار الذي تستحقه، فكانت مؤلفاتها تصدر باسم جورج إليوت .
مع الأسف في الوطن العربي مازالت بعض الفتيات يلجأن للكتابة بأسماء مستعارة، تماماً كالسيدة ماري آن ايفانس التي توفيت في عام 1880م، بمعنى أن إنجلترا تجاوزت تلك الحقبة المظلمة من تاريخها التي كانت كثير من قوانينها قد وضعت غير مراعية لحقوق المرأة، ونحن اليوم في منتصف عام 2012 مازالت بعض البلدان العربية فيها نساء يكتبن بأسماء مستعارة، سواء في الشعر أو غيره، بمعنى أننا نرتكب الأخطاء نفسها التي ارتكبتها الأمم قبل أكثر من مئة وثلاثين عاماً . ليس هذا ما يؤلم وحسب إنما هناك أخطاء تاريخية في المجال الأدبي ضد المرأة العربية لم يتم تصحيحها، أو إذا صح التعبير لم تتم إعادة دراستها والتحليل وتقديم دراسات تثبت الحقائق، من الأمثلة في هذا السياق ما يتم ترديده على نطاق واسع بأن أول رواية عربية تم تأليفها كانت لحسين هيكل والتي صدرت في عام 1914 وكان عنوانها “زينب” هناك مَنْ أكد أن أول رواية عربية صدرت كانت من تأليف السيدة زينب فواز والتي صدرت عام 1899 بعنوان: “حسن العواقب”، بل يقال أيضاً إن السيدة زينب أصدرت رواية أخرى بعنوان: “الملك قروش” وكان ذلك في عام ،1905 وهناك مَنْ يذهب للتاكيد أن الأديبة عفيفة كرم، كانت قد نشرت أربع روايات وتم نشرها تباعا عندما حل عام 1914 الذي خلاله نشر الأديب حسين هيكل روايتة .
أفهم أن المفكرين والعلماء أكثر انفتاحاً وتفهماً ومعرفة بأن تميز المرأة وتفوقها شيء طبيعي ولا يعد تنافساً أو تجاوزاً لطقوس متعارف عليها أو مسلمات إنسانية، بل إن تميزها على الرجل وتفوقها إذا تم – يأتي في سياق طبيعي، وهو أن الأكثر علماً وموهبة هو الأقدر على التميز والوصول للإنجاز .
المفكر الراحل إدوارد سعيد له كلمة جميلة في هذا السياق حيث قال: “إن المثقف، رجلاً كان أم امرأة، هو إنسان صاحب رؤية استقلالية واضحة عن مراكز السلطة” .
وبحق إن كل رجل له رؤية واستقلال عن أي عوامل مؤثرة سيعرف الحقيقة ثم يمنحها لمن يستحقها من دون تمييز بسبب اللون أو المعتقد أو حتى الجنس .
فاطمة المزروعي