العمل النقابي: حق مشروع غير قابل للتقييد بقلم : هند شريدة
تختلف الطقوس بين أبناء جلدة المذهب الواحد، فقد يعلو صوت الأورغن، وتصدح نغمة (سوبرانو) عالية في الصلوات الكاثوليكية، بينما تدنو (ألتو) غليظة في الترانيم البيزنطية عند الأورثوذكس، ويحدث أن يستخدم السريان الدفّ في كنائسهم، كما يستخدم المصلون السود (الجاز) بفرح عارم، إذ يفتحون جالوقهم كله، ويهتفون وهم يتمايلون يمنة ويسرة وسط تصفيق حارّ، قد يعتبره البعض مبالغ به أمام لحظات الخشوع قدام المذبح أو عند تلاوة آيات أو مزاميز من الكتاب المقدس. هذا مثال يفيض تقوى وورع وفرح وامتلاء. مثال كلاسيكي وناعم بعض الشيء، لكن تكمن الخلاصة فيه في تعدد الأشكال والطرق للوصول الى الله.
وفي مقاربة ثورية أخرى؛ يحدث أن يختار المناضلون ولأجل قضية عادلة شكل النضال الأنسب بالنسبة لهم للتعبير عن احتجاجهم. فعندما تنتهج مجموعة ما فعلا احتجاجيا، يكون حينها قد خرج من دائرة الذاتية والعفوية والارتجال الى دائرة الموضوعية الواعية لصالح المجموع، قد يصحبها تكتيك مدروس، وقد تتفاوت مستويات الفعل وقوّته حسب استنفاذ الخيارات، لكن تظل كافة السبل والأشكال مشروعة وممكنة ومفتوحة أمامهم.
قد ينزل معارضون الى الشوارع محتجين، وهاتفين بمطلب نبيل؛ وقد يرفع بعضهم ملصقات تعبيرية، وقد يكتب بعضاً آخر جُمَلاً ساخرة، بينما يُؤْثِرُ آخرين الجُمَل المباشرة مسطّرين مطلبهم بوضوح شديد. ويحدث أحيان أُخرى أن تتّشح جماعة تَتَفَيْلَقُ سويا في كنف فكرة معينة، وتأخذ من لون اسما لها، (تماما كما حصل في الثورة الصفراء في الفلبين، والثورة الزرقاء المطالبة بمشاركة المرأة في الحياة السياسية في الكويت)، وقد يتماسكون في وقفة أو يسيرون في موكب لوجهة محددة، وقد تتخلل بعض التظاهرات عزفاً موسيقياً، أو تضرب معاقل بأسرها، وتغلق شوارع بأكملها.
وفي بقع أخرى قريبة، وصلت الاحتجاجات حدّ التطرف، حين أضرم بوعزيزي في نفسه النار، مشعلا جسده بالكامل، كأنه أراد أن يقول محتجا: أنا العبد المسحوق.. أعترض قهرا على ما حلّ بي.. قررت أن أتلوّى وأصير رمادا بإرادتي، أنظروا اليّ وأنا أُنير العتمة.. لن أترك للحكومات نشوة الانقضاض عليّ أو منعي أو “إنقاذي” كما يدّعون، ها أنا أُنير جسدي، وأنقذ نفسي من ظلمهم. بغض النظر عن تأييدنا أو تحفظنا على مبالغة فعل بوعزيزي من عدمه بنظرنا، والذي كلّفه حياته، فنحن لم نخض معركته بينما نكتب عنه ونستشهد به الآن، يبقى السؤال الأهم الذي ينبغي أن نسأله: ما الذي أوصل بائع الخضار الذي سلبته السلطات عربته (مصدر رزقه الوحيد) الى هنا؟
يخوض هذه الأيام الأسرى الإداريون في سجون الاحتلال معركة الاضراب عن الطعام ثمنا للشمس والحرية، حذا حذو اختيارهم المعتقلون السياسيون في سجون السلطة الفلسطينية، وها هي نقابة جامعة بيرزيت تنخرط بذات السبيل تحقيقا لمجموعة من المطالب، على رأسها الاستجابة لمطلب تطبيق اتفاق الكادر للعام 2016 بإضافة نسبة ال 15% على الراتب الأساسي، حيث أصرت إدارة الجامعة على إبقائها مبلغا مقطوعا، الأمر الذي يحرم العاملين من الحقوق المترتبة على الاتفاق، بما فيها تلك المرتبطة بزيادة الراتب التقاعدي، وصندوق التوفير للعاملين، ونسبة غلاء المعيشة. والجدير ذكره والتشديد عليه هنا، عدم المقاربة إطلاقا بين الأطراف الثلاثة الآنفة الذكر، الا أن الشكل في خوض احتجاجهم هو المقصد.
عودة للإطار النظري لمفهوم المظاهرات الاحتجاجية وأشكالها وأنواعها، وبكلام معرفي لا غبار عليه، مقتبس من المؤرخ هوبزباوم، يقول:
“علاوة على الجنس، يتجسد النشاط الذي يربط التجربة الجسدية بالعاطفة الشديدة إلى أقصى حد بالمشاركة في مظاهرة حاشدة حين يتمتع الجمهور بحماس كبير على النقيض من الجنس، ذو الطبيعة الفردية، فإن التظاهر جماعي بطبيعته، وكما هو الحال مع الجنس، فإن التظاهر يعني ممارسة بعض الأفعال الجسدية –المسيرة وترديد الشعارات والغناء– الذي يتجلى اندماج الفرد مع الجماعة خلالها، وهو جوهر التجربة الجماعية.”
هذا بالضبط ما فعله العاملون في جامعة بيرزيت عندما اتجهوا صوب مبنى الإدارة، وهم في يومهم السابع من الإضراب عن الطعام، وتجمهروا أمام غرفة اجتمع فيها مجلس الجامعة، وهتفوا: “ارحل”، مطبّلين ومصفقين، فيما أصدر مجلس الأمناء بيانا، واصفا حركة الاحتجاج الأخيرة من الهيئة الإدارية لنقابة العاملين من تصفيق وهتاف بـ “التصعيد الخطير” ووسموا الحدث بتهجم الكادر الوظيفي على اجتماع مجلس الجامعة، وعليه، قرر الأخير تعليق العمل في الجامعة بالكامل لفترة أسبوع ابتداء من اليوم الثلاثاء 27/9/2022، مع إخلاء تام للحرم الجامعي”.
في نظرة متعاقبة لمكونات الأزمة، فهناك أعضاء النقابة، وهم أكاديميون وعاملون في فلك الجامعة، أغلبهم خريجو جامعة بيرزيت أصلا، وكانوا جزءا أصيلاً من الحركة الطلابية سابقا. يجلس في القاعة كوكبة من الأكاديميين المخضرمين، وهم مجلس الجامعة، الذين كانوا يوما ما جزءا من نقابة العاملين، ممن خاضوا الإضراب النقابي الأطول في تاريخ الجامعة عام 1986 والذي استمر 100 يوم حينها. المشهد برمّته يظهر تعاقباً غير مفهوم أبدا. أن يصف مجلس الأمناء، والذي خاض بنفسه نضالات سابقة، الفعل الاحتجاجي لنقابة العاملين بالعنيف والهجومي، يشكل خلخلة للمفاهيم وإسقاطاً لحق الاحتجاج والاعتراض الديمقراطي الذي تتغنى به الجامعة دوما، بل ازدراءه بإسقاط نعوت تستصغره حقا، إذ بات يتمظهر في وعي الأمانة العامة للجامعة، أن الهتاف صراخ عنيف غير حضاري، ولا يليق بهم مواجهة فعل “قليل القدر” مثله، فبدلا من الاستجابة والحوار، يسيطرون ويصعّدون بإغلاق الجامعة.
لا أظن أنه عصيّ على الجامعة ماليا الاستجابة لمطلب إضافة ال 15% على الراتب الأساسي، إنما إغلاق الجامعة يشير الى توجه جديد عند مجلس الجامعة وهو تقييد العمل النقابي وفلترته وهندسة البيئة والظروف الموافقة لممارسته، بما هو مناسب/ ملائم بحسب المركز أي “مجلس الجامعة”، أي بما معناه تحديد شكل وزمن مضبوطَيْن ومناسَبَيْن ولائقَيْن لخوض العمل النقابي وأشكاله من إضراب أو غيره من الأشكال، ضمن ضوابط تتناسب مع توجهات المجلس، الأمر الذي يتعارض جوهريا مع حق وروح الإضراب. لماذا لم يسأل مجلس الجامعة أنفسهم ما الذي أوصل نقابة العاملين في الجامعة الى انتهاج الاضراب عن الطعام غير المماطلة الموسومة بالوعودات الناعمة دون تحقيق مطالبهم على مدار أكثر من عام؟!
على مجلس الأمناء، ومن كان يوما ما متراس الجامعة بالفعل، جسر الهوة بينه وبين النقابة بقبول المبادرات المجتمعية التي تقرب وجهات النظر، وتضع حدا للمماطلة في الوعود، بل تستثمرها فعلا لبناء قرارات محقة للصالح العام، فمطلب حقوقي لصالح عاملي الجامعة يعتبر للصالح العام ولنهضة الجامعة ككل، وهو يعود بثماره في نهاية المطاف على الطلبة، جيل المستقبل الواعد. حبّذا على مجلس الأمناء أيضا، بشعره الأبيض البديع، وخبرته الخيّرة والطويلة في الجامعة وفي الحياة العامة، أن يضخ دما جديدا وشابا في كنفه، دم قادر على إحداث تغيير في العقلية الكلاسيكية والاستفادة أيضا من الخبرات الأصيلة السابقة، والاعتراف أن من يخوض الإضراب حاليا ثلة من الأكاديميين والعاملين الواعين جدا، والذين لو لم يكونوا كذلك، لما كانوا أصلا كادرا طليعيا في جامعة بيرزيت.
بما لا شك فيه، يتطلع الجميع، بمن فيهم مجلس أمناء جامعة بيرزيت بالتأكيد ونقابة العاملين والطلبة وذويهم لمعالجة أزمة الاضراب الأخير، لكن على الجميع أن يعي أن كافة النضالات النقابية على اختلاف شرائحها وبمخرجاتها هي حق مشروع غير قابل للتقييد، وهي تتموضع ضمن بديهية أساسية، تُعلي من شأن ونموذج جامعة بيرزيت، وتصب في خدمة جميع مكوناتها.