منذ ثمان سنوات وفي مثل هذا اليوم غادر الزعيم والقائد والمعلم والثائر والمفجر والرئيس ,غادر هذا العالم الذي أعطاه الكثير من العبر والحكم والدروس والمواعظ ,ما أن تمسك بها لن يستطيع أحد كسر أرادته, لقد كان الزعيم على الدوام عنوان التحدي ,في أكثر الأماكن التي كان يخر من هم برتبة رؤساء وملوك وأمراء صاغرين طائعين ,لقد قالها الرئيس ,للرئيس الأمريكي في عقر داره ,أنا لا أستطيع العودة بأقل ما يريد شعبي ,فكان التهديد والوعيد ,وكان الإصرار والإرادة الصلبة التي اعتمده على الحكمة والحنكة ,فأرسل الرسائل التي تمكن شعبنا من فك رموزها وفهمها بسرعة فائقة ,فكان الرد الجماهيري في المكان الذي أريد له أن يكون طي النسيان ,القدس والمسجد الأقصى ,على الرغم من موافقة كل الملوك والرؤساء العرب على هذا حسب ادعاء وزيرة الخارجية الأمريكية في حينه (مادلين أوبرايت )ولكن بحضور الزعيم لم يجرؤ أي من عرابي المشاريع الأمريكية الصهيونية النطق بما يتحدث به مع الأمريكان ,من هنا كان الرفض من قبل الجميع حينما سألهم القائد والزعيم السؤال (عوزيني أفرط بالقدس؟؟؟ .بالطبع الجميع أغلق سماعة الهاتف دون جواب ,لأنه يعي بأن لهذا القائد الأثر الكبير ليس بين أبناء الشعب الفلسطيني فقط بل بين أبناء الأمة العربية والإسلامية ,بل بين شعوب وأحرار العالم ,من هنا كان الخوف على الدوام من قلب الطاولة على من يقف أو يحاول أن يتلاعب بالقضية العربية ,لقد تمكن الرئيس المرحوم ياسر عرفات من إدخال فلسطين من خلال كوفيته بدلته العسكرية التي لم تفارقه على الدوام إلى عيون وقلوب وعقول كل أحرار العالم ,
من هنا نبع موقف رجل التاريخ والجغرافية الوطنية من خلال إصراره وتمسكه بالثوابت الوطنية ,والتي قال فيه الكثير واتهمه بالتفريط والتقويض والمساومة والمتاجرة بمعاناة شعبه وفي نهاية المطاف لم يكن يساوم أو يتنازل أو يفرط ,
لقد عاد الرئيس عرفات من كامب ديفد وهو يعي بأن مصيره أصبح معلوم أضعف الإيمان لنفسه وهنا تكمن زعامة الزعماء والقادة فصدح بها بأعلى صوته في أواخر مارس عام 2002 قال عبارته المشهورة ” يريدونني إما طريدا وإما أسيرا وإما قتيلا ، لا أنا أقول لهم شهيدا ،شهيدا ، شهيدا “، واستمر الحال حتى ساءت صحة الرئيس ياسر عرفات ، رأى الأطباء ضرورة نقله إلى باريس للعلاج ، وغادر يوم 29/12/2004م عاد كما رسم لنفسه النهاية ,ولكن جسده الذي غادر هذا الكون عبر رحلة وداع كونية تليق بمقامه الكبير ,من باريس الى القاهرة الى رام الله وفي كل محطة من هذه المحطات كانت روحه تحوم فوق رؤوس القادة والزعماء لتنثر عليهم العهد والقسم والوفاء الذي كان يردده دائما أما النصر او الشهادة ,لقد نثرت روح القائد الخالد أبو عمار في ربوع فلسطين وفي عقول وقلوب كل من سوف يحملون الراية من بعده القيم والمبادئ والأهداف التي أستشهد من أجلها لكي تكون النبراس الذي يهتدي به الجميع دون الحلم والعمل على تكريس الانقسام والانفصال وتكوين إمارات ودويلات ظلامية ودون أن يريق مواطن فلسطيني دم مواطن آخر .
لقد فقد شعبنا والأمتين العربية والإسلامية وكل أحرار العالم في مثل هذا اليوم ، رجلا من أغلى الرجال، رجلا أمضى حياته فارسا مغوارا، ومناضلا بطلا، سياسيا محنكا، ومع ذلك رفع غصن الزيتون مرتين، مرة عام 1974م عندما ألقى كلمة فلسطين في الأمم المتحدة، والأخرى عام 1993 عندما نادى للعمل من اجل سلام الشجعان
عند توقيع اتفاقية إعلان المبادئ في واشنطن، داعيا العمل من
اجل إحلال السلام القائم على العدل، لا السلام القائم على الظلم والاضطهاد.
لقد وعى الرئيس عرفات جيدا أبعاد النكبة التي حلت بشعبه عام 1948م، فقرر أن يسخر حياته لإزالة أثارها وعودة الحقوق إلى أصحابها، رافعا شعلة أضاءت للشعب الفلسطيني طوال أربعين عاما، طريقا حالك الظلام نحو فلسطين، استطاع أن يعيد القضية الفلسطينية إلى فلسطينيتها، بعد أن غلفتها شعارات التيه والضياع ردها من الزمن، ظاهرها رحمة وباطنها المؤامرات والدسائس.
لقد استشهد ياسر عرفات بعد أن استطاعت مدرسته الثورية والنضالية من تخريج العشرات والمئات بل الألوف ومعهم جماهير الشعب الفلسطيني لمواصلة الطريق، طريق أبو عمار نحو فلسطين والقدس.
لقد تمكن الرئيس ياسر عرفات من رفع الوصاية الزائفة من قبل الأنظمة العربية على قضية شعبنا في العام 1974م كما تم تثبيت وتكريس وإقرار بأن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد لشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده ,لم يكن هذا ليحصل لولا الحنكة والحيوية والدينامكية والكاريزما القيادية التي كان يتمتع بها هذا القائد .لقد كان ياسر عرفات أول الانتصارات بعد سلسلة الهزائم التي منيت بها الأنظمة العربية حيث معركة الكرامة في العام 1968م وتحطيم أسطورة الجيش الصهيوني بمجموعة من الفدائيين الذين أمنوا بقضية عادلة وحظوا بقيادة تمتلك إرادة النصر .
كما كان أبو عمار الصمود الأسطوري حينما تحدى هو والشجر والحجر وشعبه والشعب اللبناني البطل الغطرسة الصهيونية في ظل حالة صمت عربي مطبق ورضي عالمي مخزي من أجل التخلص من أنبل ظاهرة عرفها التاريخ ولكن وبعد 80يوما خرج النسر الفلسطيني أكثر قوة وصلابة وتصميم نحو فلسطين الهدف ,
وقد قالها القائد صاحب الرؤية الثاقبة حينما سأله الصحفيين وهو يخرج مع مقاتليه على ظهر السفن الفرنسية إلى أين يا أبا عمار رفع شارة النصر المعروفة والمفضلة له نحو فلسطين وفعلا لقد مهد هذا القائد الدرب نحو الهدف فكانت السلطة الوطنية النواة الأولى واللبنة الأساسية من أجل أقامة فلسطين وتحقيق الحلم وقد خيب الزعيم بكل أفعاله ودحض كل المهووسين بأكالة التهم وهم نيام فلم تكن السلطة الوطنية عند الرئيس عرفات ألا وسيلة من أجل الهدف فكرس كل معالم الوطن من مطار وحكومات واستقبال زعامات ومجلس تشريعي وانتخابات ورجال شرطة وامن من أجل حماية الحلم الوطني الفلسطيني ,كما عمل على وضع الطريق الذي تعهد خلفه بالسير عليه دون التنازل قيد أنملة عن المبدأ الذي استشهد أبو عمار من أجله ,
وهاهي هي القيادة الوطنية التي أعدها الرئيس أبو عمار لتحمل الأمانة من بعده تستعد من أجل العمل على الحصول على عضوية دولة مراقب في الأمم المتحدة على الرغم من كل التهديد والوعيد التأمر الذي يحاط بها لكن القيادة تعي أن روح التحدي والإسرار التي تركها الزعيم الخالد لازالت تمنحهم القوة والتصميم من أجل المضي نحو الهدف ,على الرغم من محاولات البعض القريب ممن يحلمون بأن يكون لهم شأن ومكان من خارج أطار العمل الجمعي الوطني من خلال الاعتماد على بعض الأموال المغموسة بروح المؤامرة والواهمة بأنه بإمكانها أن تتلاعب بقضي شعبنا لصالح أعداءه سوف يفيقوا بعد حين ليجدوا أنفسهم في مزابل التاريخ وهنا لابد من القول بأن هناك فرق ما بين زعيم يغادر جسدا ويبقى روحا وإرادة وتصميم وقوة وحاكم يغادر طردا أو قتلا أو يكون قد أصاب من شعبه ما أصاب ,
نعم أن أبو عمار في هذه الأيام يحي الذكرى والصورة الطيبة التي خرج من هذا الكون وهي في مخيلته وفكره وقلبه ,صورة شعبنا الصامد الصابر واليوم وحين تحوم روحه الطاهرة فوق روابي ووديان ومدن وقرى فلسطين ويرى حالة الانقسام والتشرذم ,وحالة النهش والكذب والتدنيس والجلد والضرب الذي أصبح يمارس ضد أبناء فلسطين ونساء فلسطين من قبل من يدعون بأنهم الحريصين على تحرير فلسطين ,واليوم يقف هؤلاء رفضا لإحياء ذكرى استشهاد هذا الرمز الذي لم تغادر ذكراه أحدا من أبناء شعبه المخلصين فان روحه سوف تحي ذكرى تلك الصورة الأخيرة لشعبه حين غادر هذا الكون لتسأل الجميع فينا من يعيد تلك الصورة من أجل تحقيق حُلم القائد بأن يرفع شبل أو زهرة من فلسطين علم فلسطين فوق أسوار وكنائس القدس
نبيل عبد الرؤوف البطراوي
10/11/2012