شفا – لم يعد نبأ رغبة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل بالتنحي والرحيل سراً، سواء جاءت تلك الرغبة بالإكراه وتحت ضغط تيار عريض في صفوف قيادة الحركة، وبخاصة في قطاع غزة، أو- كما قال هو- لإفساح المجال لقيادات ودماء جديدة، كي تتدفق في عروق قيادة حماس.
أصل حكاية التنحي يعود لجذور الخلاف الذي ظهر واضحاً منذ اجتماع قيادة حماس في الخرطوم قبل نحو عام، بالتزامن مع انطلاق أعمال التحضير للمؤتمر العام للحركة. وقد شاءت الأقدار أو الصدف أن يتزامن وصول هذا المؤتمر إلى محطته الأخيرة التي فجرت كل الخلافات على النحو الذي نراه، مع اندلاع ثورات الربيع العربي التي غيرت قسمات وجه الشرق الأوسط، وخرائط التحالفات الإقليمية.
مع هذه التطورات، لم يكن ممكنا أن تبقى أبواب حماس موصدة وبعيدة عما يجري حولها، وهي التي صارت خلال السنوات العشرين الماضية قوة أساسية، وجزءا مكوناً من مكونات الأحلاف الإقليمية في المنطقة.
جذر الخلاف الراهن أن قيادة حماس قدمت قراءتان لهذه التطورات، يمكن حصرها- من دون اختزالها- في عنوانين اثنين: الخلاف بين مشعل من جهة، ورئيس حكومة غزة في قطاع غزة اسماعيل هنية من جهة أخرى، وهي الخلافات التي تتجاوز حدود الحساسيات الشخصية والصراع على المناصب، وتصل الى حد الصراع على الخيارات، وعلى موقع الحركة ودورها وتحالفاتها وأحلافها وسلطتها في منطقة الشرق الأوسط الجديد.
والعنوان الثاني: حماس/غزة رأت في نتائج ثورات الربيع العربي، مكاسب صافية تضاف الى حساب تعزيز مواقعها، وترسيخ سلطتها، خصوصا وأن هذه الثورات قد أوصلت جماعات الإخوان المسلمين الى سدة الحكم في عدة دول، لا سيما مصر. فقد فتحت أنظمة الإخوان لحماس أبواب عواصمها، بعد أن ظلت مغلقة في وجهها، وباتت فرص الاعتراف بشرعية سلطة الحركة متاحة، بدليل الحفاوة التي استقبل بها هنية في القاهرة بصفته رئيس وزراء، وتقديم قطر مساعدات سخية لحكومته من دون أي تنسيق مع الرئيس محمود عباس في رام الله. وثمة أنباء أن عواصم أخرى ستفتح مكاتب تمثيل للحركة فيها، وهو ما اعتبرته السلطة الفلسطينية ورئيسها بمنزلة عدوان على وحدانية التمثيل الفلسطيني.
وهناك من يؤكد أن إخوان مصر حسموا موقفهم ضد استمرار مشعل على رأس «حماس»، لكنهم ارتؤوا ان يقفوا في منتصف الطريق بين مشعل وهنية، وباتوا يرجحون كفة نائب رئيس المكتب السياسي للحركة موسى أبو مرزوق، باعتباره حلاً وسطاً بين الاثنين.
حماس/غزة، بخلاف مشعل ومن معه، احتفظت بعلاقة وطيدة مع طهران، أي مع أهم مصادر التمويل لسلطتها. والأموال التي كانت تتدفق من طهران الى مكتب مشعل في دمشق اصبحت تنتقل مباشرة الى غزة. ولا نأتي بجديد حين نقول إن من يحتكر مصادر المال، ويقف على رأس السلطة يمتلك مصادر القوة والقرار، ويمسك بالتالي بتلابيب الزعامة.
اكتملت دائرة خسارة مشعل لطهران ودعمها، بخسارة لا تقل فداحة، إذ اضطر هو ومن معه من قياديي الحركة الى مغادرة دمشق. والنتيجة أنه خسر المكان بعد المال، وأصبح يتموضع في خندق الدوحة بصفتها بلد مضيف، وليست مقراً قيادياً للحركة. فمشعل ومنذ قدومه الى العاصمة القطرية يقيم في أحد فنادقها.
في المقابل أبقت حماس/غزة على علاقتها بدمشق، ولو من الأبواب الخلفية، أي عبر طهران وحزب الله. فالأخير يلعب دوراً حيوياً في إبقاء حبل السرّة متينا بين أطراف حلف طهران/ دمشق متواصلة مع حماس، ولكن من دون مشعل.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة الى زيارة محمود الزهار الى بيروت، حيث اجتمع قبل مغادرته من هناك الى طهران، مع الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله لمدة ست ساعات، نجح خلالها الأخير بإقناع الزهار بأن مصلحة حماس/ غزة ألا تتماثل مع موقف جماعة الإخوان المسلمين الأم، وأن تمتنع عن تصدير مواقف مناصرة للانتفاضة السورية ضد نظام الرئيس بشار الأسد. وهذا ما حصل، إذ اختفت من وسائل إعلام حماس/غزة أي تصريحات مساندة للثورة السورية، واختفت من الشوارع أي مسيرات أو تظاهرات مؤيدة لها، كما كان يحصل في الأيام الأولى للثورة.
في خضم الخلاف «الحمساوي» الراهن، يحضر بقوة الملف الفلسطيني الداخلي، وبالتحديد ملف المصالحة مع حركة فتح. مشعل أبدى حماسة للمصالحة، ووقع مع عباس اتفاق الدوحة قبل أن يلقى حتفه على يد هنية والزهار ومن معهم في قطاع غزة. مشعل يريد أن يواجه استحقاقات مرحلة الربيع العربي وما يليها بإنهاء الانقسام، بينما قادة سلطة الأمر الواقع في القطاع يريدون شرعنة سلطتهم وترسيخها، وجميع إجراءاتهم تذهب باتجاه الدفع نحو إقامة دولة غزة، والاستفراد بمصيرها حتى لو كان ثمن ذلك تبديد أي فرصة لإقامة دولة فلسطين المستقلة على كل أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة.
وفي سبيل ذلك، ثمة محافل فلسطينية عدة تتداول- همساً- استعداد قادة حماس في غزة لقبول تسوية مؤقتة مع إسرائيل، وهو ما يرفضه مشعل. وقد يكون سيناريو الحل الذي طرحه أخيراً وزير الدفاع الإسرائيلي أيهود باراك عن انسحاب أحادي من الضفة هو المرشح أن يجد طريقه للتنفيذ. لكن عباس يرفض هذا الحل، ما قد يدفع بالإدارة الأميركية وإسرائيل- إذا وصلتا الى قناعة بأن عباس «عقبة»- للبحث عن بديل يكون قادراً على إدارة الوضع الفلسطيني، ويمتلك قاعدة شعبية تؤهله لذلك، كما جرى في مصر وتونس، حيث عقدت واشنطن- في الخفاء- صفقات مع جماعة الإخوان، انتهت بتسلمهم الحكم، وهي مواصفات تنطبق في الأراضي الفلسطينية على «حماس» فقط.
من غير المستبعد أن تنفذ إسرائيل فعلياً انسحابا أحاديا من الضفة، وتكرر سيناريو الانسحاب من غزة، ومن ثم تترك الصراع على السلطة أن يأخذ مجراه بين فتح، وحماس، على أن تساعد في الوصول الى نهاية شبيهة كتلك التي انتهى إليها القطاع بسيطرة حماس على الضفة، سواء بالقوة أو عبر الانتخابات.
وأكدت هذه المحافل أن حوارت سرّية جرت وتجري بين شخصيات مقربة من حماس، وأخرى من قيادتها ومبعوثين أميركيين في عواصم أوروبية وإقليمية وبوساطتها، تبحث في هذه السيناريوهات، وتأمل أن تصل الى صفقات بخصوص الحل النهائي وملفاته الشائكة.
الصراع على زعامة حماس لم يحسم بعد، فثمة فسحة من الوقت تمتد حتى تنهي الحركة كل مؤتمراتها في ساحاتها المختلفة، وما ستفرزه من نتائج. وبالتالي ستتضح احتمالات استمرار مشعل أو رحيله، هذا أولاً. أما ثانياً: هناك أطراف عدة ونافذة، ولها دالة كبيرة على الحركة وقيادتها، قد تتدخل في الربع الساعة الأخير، فتقلب الصورة رأساً على عقب.