11:34 صباحًا / 25 نوفمبر، 2024

أزمة أوكرانيا .. الخيارات “العسكرية” تستبق السياسية بقلم : د. طارق فهمي

أزمة أوكرانيا.. الخيارات “العسكرية” تستبق السياسية بقلم : د. طارق فهمي

ستظل روسيا تتعامل مع حلف الناتو والولايات المتحدة انطلاقا من قاعدة أنها مَن تقرر إطار المواجهة حربا وسِلمًا.

هذا ما برز في سلسلة المواقف الأخيرة لروسيا، وتحديدا باعترافها بـ”جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك”، الأمر الذي سدَّد ضربة قاضية لعملية السلام، الهشّة أصلا، وفي ظل إدراك حقيقي من موسكو بأن المواجهة مع أوكرانيا جزء من كل، وليست هي السبب الوحيد، وهو ما تدركه دول الناتو والولايات المتحدة بالفعل، خاصة مع تنامي النزعة العسكرية والسعي لعسكرة السياسة الروسية جيدا، وهو ما جرى في مناطق متعددة من مناطق النفوذ الروسي، بل وفي المنطقة نفسها عام 2014 مع ضم شبه جزيرة القرم، إذ يتكرر الأمر ذاته في التوقيت الراهن مع إدارة أزمة أوكرانيا.

المصالح الحاكمة للموقف الأمريكي ولحلف الناتو ليست وحدها مَن تقرر الواضع الراهن، وذلك لاعتبارات عدة:

الأول: إدراك الولايات المتحدة أنها لن تدخل مواجهة مع روسيا حاليا بسبب قرب انتخابات التجديد النصفي، واستمرار حالة التجاذب داخل الكونجرس ومجلس الشيوخ حول فرض عقوبات على روسيا قبل أو بعد مواجهتها، وهو أمر سيطيل أمد الأزمة الأوكرانية، خاصة أن المشرِّعين الأمريكيين لديهم تحفظات تختلف عن الرؤية الراهنة لوزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين، ما سيحُولُ ورسمَ سياسة أمريكية واحدة، بل هي مجموعة سياسات تبدو متضاربة، سيكون لها تبعاتها، ليس على إدارة هذه الأزمة، بل والأزمات المتوقعة مع روسيا لاحقا، من القوقاز وآسيا الوسطى إلى جنوب مناطق التماس الأخرى والمتعلقة بحدود التجاذب حول المصالح العليا لكلا الجانبين الأمريكي والروسي، ما يشير إلى أن الأزمات الأخرى المقبلة بين الجانبين ستكون أكثر خطورة، وهذا سيأخذ وقتا لتحديد إطار الأمن الأوروبي في التعامل، وبناء استراتيجية حقيقية لعدم المواجهة، والإبقاء على الترتيبات الأمنية لبعض الوقت، وهو ما قد تتحفظ عليه الولايات المتحدة، التي ترى أن الخطوط الحمراء التي ترسمها السياسة الروسية قد تُطبَّق في مناطق أخرى، سوريا و”المتوسط”، بل وفي جنوب شرق آسيا، ما قد يدفع بتَكرار المواجهات دوريا بين الأطراف المتنازعة، إذ لن يكون على هذه الحال هناك استقرار في منظومة التعامل السياسي أو الاستراتيجي بالمعني المعروف، خاصة أن روسيا لن تتخلي عن مصالحها الكبرى في مختلف مناطق الاستهداف والنفوذ العليا.

الثاني: أن مهام حلف الناتو في إطار ما يجري ستكون محدودة، بصرف النظر عما يتردد من أن الأمر مرتبط باستراتيجية شاملة تعمل عليها فرنسا وألمانيا وباقي دول الحلف، التي ترى أن المشكلة ليست متعلقة بالسلوك الروسي، وإنما في عدم وجود آليات حقيقية تمنع تكرار ما يجري.

إذًا، فأي ترتيبات أمنية محكومة فعليا بموقف مباشر من أمريكا، التي قد تتحفظ على مسار الترتيبات الأمنية الراهنة، فالقضية ليست في توسيع نطاق حلف الناتو، الذي يعاني أزمة ثقة بين أعضائه، كما أنها تتجاوز فعليا الإطار المصلحي، المال والاقتصاد والاستثمارات والغاز، فهذه أمور مستقرة ولن يقترب منها أحد بصرف النظر عن التهديدات التي تنطلق حاليا، وإنْ بقيت في إطار امتلاك أوراق ضاغطة للتعامل، ما يشير إلى أن المواجهة الأوروبية-الأمريكية قائمة هي الأخرى بصرف النظر عن نمط العلاقات القريبة الراهنة، خاصة أن دول حلف الناتو باتت تتشكك في إمكانية العمل والتنسيق وفرض إجراءات أمنية واستراتيجية في ظل حالة عدم الاستقرار، التي تحكم إدارة العلاقات الأوروبية-الأمريكية من جانب، ومع روسيا من جانب آخر.

الثالث: أن مطالبة الجانب الغربي بعدم التصعيد ووقف المواجهات ستكون مشروطة من ناحية روسيا، التي لن تقبل بأن تكون هناك تنازلات في أمنها القومي في أي أزمة مقبلة أو راهنة، حيث لن تقبل بأن تظل الولايات المتحدة تضع شروطها العليا مقابل ما تسعى إليه موسكو بضرورة توافر التعهدات الأمنية والاستراتيجية لحل ما قد تواجهه العلاقات الدولية من تطورات سلبية بصورة حقيقية، وهو ما قد يكون مطروحا في إطار السيناريوهات الحاكمة لإدارة أزمة النظام الدولي، وإعادة تكرار السياسات التي كانت قائمة في سنوات سابقة، ومنها على سبيل المثال إعادة دوائر التأثير والنفوذ، كل وفقا حسابات مرسومة، وهو ما ينطبق ليس على روسيا والولايات المتحدة فقط، بل على الصين أيضا، ما سيعطي لحالة النظام الدولي مؤشرا حقيقيا على أن الدول الكبرى لن تتوافق سياساتها، وهو ما سيتكرر بصورة أو بأخرى في إدارة أزمة أوكرانيا، خاصة أن الولايات المتحدة “لا تريد تسوية حاسمة، وإنما تسوية مرحلية”، كما أن فرنسا وألمانيا لا تريدان تبديد حجم ما يجري أوروبيا من مجهودات لحل الأزمة سِلميًّا ونزع فتيلها والتحول إلى تفكيك باقي عناصرها الأخرى هيكليا، والعمل على فرض تسويات جزئية ومرحلية.

الرابع: تبقى الإشكالية الكبرى فيما يجري من تحركات تقوم بها الأطراف المعنية، هي استمرار التوتر على الحدود بين روسيا وأوكرانيا، وتدمير مركز لحرس الحدود في منطقة روستوف، الذي يبعد فقط 15 مترا عن الحدود بين البلدين، فضلا عن إعلان “البيت الأبيض” أن واشنطن ستفرض عقوبات على أي أفراد أو كيانات تتعامل مع المنطقتين اللتين اعترفت بهما روسيا كـ”جمهوريتين” في شرق أوكرانيا، رغم استمرار التنسيق الفرنسي لعقد قمة بين الرئيسين “بوتين” و”بايدن”، في ظل التوقع بعدم إقدام روسيا على تقديم تنازلات حقيقية للغرب، ما يؤكد أن روسيا تدرك تماما مهام منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، إذ لن تتخلى موسكو تحت أي تسمية حاليا عن ثوابت التعامل، التي تراها “تمس الأمن الروسي”، كما ترى أن البيئة الأمنية الأوروبية يجب تغييرها بصورة شاملة عبر ضوابط تسعى روسيا لإقرارها من خلال إدارة الأزمة الأوكرانية الحالية.

هذا الأمر يفسر بالفعل أزمة افتقاد الثقة بين الجانبين الأمريكي والأوروبي معا، في ظل أدوار بعض دول شرق أوروبا، التي تراها روسيا “معادية تماما وتعمل وفق أجندة محددة ترسم سياستها الولايات المتحدة”، ومن ثم فإن إدارة العلاقات الروسية مع دول الحلف ستُحدَّد وفق بيئة مختلفة تماما عما هو جارٍ، وسيكون لها ترتيباتها الأمنية والاستراتيجية المختلفة.. لكن في كل الأحوال ستستبق الخيارات العسكرية أي خيارات سياسية.

شاهد أيضاً

المجاعة تفتك بقطاع غزة

شفا – أجساد نحيلة خارت قواها جوعًا وعطشًا وخوفًا، أيادٍ ترتجف من البرد تحمل أوعية …