شفا – من جنوب قطاع غزة، جاءت “نسرين” يملؤها الأمل والتفاؤل، لتبدأ مسيرة دراستها الجامعية في إحدى جامعات غزة، التي كانت دائما تسمع عنها من خلال من سبقوها من معارف وأقارب، التمدن والتحضر والانفتاح بالمدينة مقارنة ببيئتها كونها من الجنوب، الذي يعد الأكثر محافظة على التقاليد والعادات المجتمعية والعائلية.
سحَرَ الواقع الجديد ابنة العشرين عاما، وتأقلمت مع المناخ الجامعي بكل ما فيه من متغيرات، فكونت لها صداقات كثيرة، وبدأت شيئا فشيئا تخلع زيها المأثور”الجلباب”، لتستبدله برداء مواكب للموضة، وللأسف الشديد نسيت هدفها الأساس من الجامعة، لتبيعه بكل ما هو سطحي من مظاهر لا قيمة لها.
بداية الانزلاق
في طريق الذهاب والإياب من و إلى الجامعة، تعرفت نسرين إلى زميلتها “شيماء”، ومع مرور الأيام توطدت العلاقة بها لتصبح صديقتها المفضلة، كونها من نفس منطقة سكناها، وزميلتها في الجامعة أيضا، كانت هذه الأسباب كفيلة لتضع ثقتها فيها، وتجعلها كاتمة لأسرارها.
مر الفصل الأول، ونجحت نسرين بتقدير مقبول، وفي الفصل الدراسي الثاني أصابتها الصدمة، حين وجدت نفسها راسبة في أغلب موادها، مما جعلها في قمة اليأس والحيرة من أمرها، فكيف ستواجه أهلها بالحقيقة من جهة، ومن جهة أخرى كيف ستوفر الرسوم لإعادة المواد التي رسبت فيها، خاصة وأن حال أهلها المادية صعبة.
لم تجد “نسرين” حلا سوى التكتم على رسوبها، لتستدين من زوجة أخيها مبلغا من المال، تتمكن من خلاله إعادة بعض المواد التي رسبت فيها، ولم تضع بالحسبان أن زوجة أخيها ستستغل إعطاءها المال كي تذلها، وترغمها على فعل ما لا تطيقه من أعباء منزلية، ومساعدتها في تربية أبناءها، كل هذا كان له أثره السلبي على نفسيتها، مما جعلها حزينة ويائسة وشاردة الذهن دوما، لتشكوا همها وحملها الثقيل لصديقتها شيماء، التي هزت برأسها مجيبة إياها، لدي الحل!!.
الحبة السحرية
أخرجت “شيماء” من حقيبتها الحبة السحرية “الترامال” التي تنسي الحزن والحيرة، لتضع “نسرين” في غيبوبة كلما استيقظت منها، اختارت الهروب مرة أخرى من واقعها الذي يزداد مرارة بتناول الحبة العجيبة.
وهمست صديقة السوء “شيماء” في أذن نسرين بكلمات شيطانية قائلة: “خذيها وسترتاحي من كل همومك، وستشعري بالسعادة الدائمة التي ستجعلك أكثر نشاطا واجتهادا للدراسة، أنا جربتها قبلك وأفادتني كثيرا”. تناولت “نسرين” الحبة تلو الحبة من صديقتها، وصارت كلما أحست بالاكتئاب وتتذكر مشاكلها الدراسية والعائلية، تهرول لرفيقتها طالبة منها المزيد، ولكن هذه المرة رفضت “شيماء” إعطائها “الترامال” مجانا بحجة أنها غالية الثمن.
لم تنطق نسرين بكلمة من شدة الصدمة، لتعاود لهفة الأمل في نيل الحبة من جديد، عندما قالت لها صديقتها هناك حل، إن اتبعتيه ستحصلين عليها لا محالة. حدقت المسكينة بعينيها مصممة “سأنفذ كل ما تريدين” فتصدمها بطلبات غريبة، السرقة!! رفضت “نسرين” وبشدة، لتترك صديقتها وتعود هذه المرة بمفردها، مواجهة طريقها الطويل بتفكيرها المتواصل والمتضارب في كل ما حدث لها، وإلى أي درجة وصلت من الانهيار، لتقرر العلاج حتى لا تعاود اللجوء مرة أخرى لصديقة السوء.
لم تشرك “نسرين” أحدا في هذا القرار، وتقصت بنفسها الحل الأمثل للعلاج من هذا الإدمان، دون مشاكل وبسرية تامة، ولكنها لم تترك تناول الترامال أثناء البحث، حتى لا تظهر عليها أعراضه السلبية عند الابتعاد المفاجئ عنه، ويفضح أمرها.
وعن كيفية حصولها على الترامال تقول “نسرين” لـ”الاستقلال”: ما كان بيدي غير الحيلة على هذه الصديقة السيئة التي اعترضت طريقي، وأوهمتها أنني سأنفذ كل ما تريد، ولكن ليس الآن، فصدّقتني وأعطتني الحبوب، وزودت لي الجرعة لتصل إلى مائة مليجرام، وأصبحت أتناول في اليوم الواحد اثنتي عشرة حبة”.
وفي النهاية، وجدت نسرين ضالتها، لتلجأ لمركز غزة للصحة النفسية كونه المكان الأمثل في غزة لمعالجة حالتها بطريقة سرية، وبالفعل بعد رحلة علاج طويلة تعافت وبدأت تعود إلى طبيعتها بالتدريج.
النسبة في تزايد
عن الإدمان على الحبوب المخدرة، ومن بينها الترامادول، يقول الدكتور خالد دحلان، أخصائي الطب النفسي، وطب الأعصاب، وعلاج الإدمان في مركز غزة للصحة النفسية، إن “ظاهرة الإدمان متعارف عليها منذ القدم، وانتشرت في الآونة الأخيرة بقطاع غزة بشكل ملحوظ بين الرجال، وهي موجودة أيضا بين النساء ولكن بنسبة أقل، ولكنها في تزايد، وهذا نلمسه من خلال الحالات التي تتردد علينا في المركز للعلاج، وحسب تقديري فإن سيدة مقابل كل ثلاثة رجال، من بين حالات الإدمان التي تصلنا يوميا، وهذه نسبة لا تبشر بخير”.
ويشير إلى أن معظم الحالات التي تأتي للمركز فتيات في العشرينات من العمر، وغالبتيهن طالبات جامعيات، تأثرن بصديقات السوء، حاولن إيقاعهن في شبكات مشبوهة، من خلال جعلهن يدمنّ المخدرات “ودائما تكون البداية من الترامال، الذي تتعاطاه الفتيات بسهولة، أكثر من أي نوع آخر من أنواع المخدرات” بحسب وصفه.
ويرجع ، أسباب انتشار ظاهرة الإدمان عند الفتيات في قطاع غزة إلى عدة أسباب، مثل الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وغياب الوازع الديني، وانتشار أصدقاء السوء المروجين للمخدرات، وخاصة داخل الجامعات، وعدم وعي الأهل ومراقبتهم لأبنائهم، وانشغالهم عنهم بالأمور المادية، وإعطائهم من المال ما يفيض عن حاجاتهم، دون مسائلتهم أين سينفقونه، “كل هذا ينعكس على نفسية وسلوك الشخص بالسلب، ويجعله يبحث عن أي وسيلة للنسيان والهروب من واقعه”.
وأكد أن بعض المسئولين عن مراقبة الأنفاق، يشاركون في جريمة تهريب الترامال، قائلا: لم يعرف الشباب في غزة الترامال من قبل إطلاقا، إلا أن من يتاجرون بالشعب الفلسطيني عبر الأنفاق أرادوا أن يكونوا خدما للاحتلال بالتغلغل داخل المجتمع الفلسطيني وتدمير شبابه”.
إجراءات قانونية
الرائد أيمن البطنيجي، مدير المكتب الإعلامي للشرطة في قطاع غزة، فأكد انتشار الإدمان بين النساء في قطاع غزة مؤخرا، وذلك بناء على ما يرد لمراكز الشرطة من قضايا التعاطي أو الترويج لأنواع مختلفة من المخدرات بواسطة سيدات، وخاصة بعد انتشار حبوب الترامادول بصورة لا يمكن السيطرة عليها، بسبب دخوله عبر الأنفاق بطريقة غير مشروعة، بحسب البطنيجي.
وتحد البطنيجي عن جهود كبيرة تبذلها الشرطة للقضاء على هذه الظاهرة التي تسللت إلى بعض نساء المجتمع الغزّي المحافظ، وذلك بالاهتمام بمراقبة الجامعات، كونها المكان الأكثر ترويجا لمثل هذه المواد المدمرة، من خلال المندسين داخل الطلبة، للإيقاع بهم في فخ الإدمان.
ويتمنى البطنيجي تعديل القوانين الخاصة بمعاقبة تجار المخدرات والمدمنين في قطاع غزة، لأنها لا تتناسب مع جرمهم المشين، وأن يعاقب كل من يتاجر بالمخدرات ليكون عبرة لغيره، متسائلا كيف لنا كفلسطينيين نطمح في بناء دولة وشبابنا يتناولون الترامال؟